قد تلقّاه معاوية فى موكب عظيم، فلما دنا منه قال: أنت صاحب المكوكب العظيم؟ . قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: مع ما يبلغنى [عنك](٥) من وقوف ذوى الحاجات ببابك؟ . قال: مع ما يبلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ . قال: نحن بأرض جواسيس، العدوّ بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به، فإن أمرتنى فعلت، وإن نهيتنى انتهيت. فقال عمر: يا معاوية، ما أسألك عن شيء إلا تركتنى فى مثل رواجب الضّرس، لئن كان ما قلت حقا، إنه لرأى أريب. وإن كان باطلا، إنه لخدعة أديب. قال: فمرنى يا أمير المؤمنين، قال: لا آمرك ولا أنهاك. قال عمرو: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عمّا أوردته فيه! قال: لحسن مصادره وموارده، جشّمناه ما جشّمناه. انتهى.
قال الزبير بن بكار، لما ذكر أولاد أبى سفيان: ومعاوية بن أبى سفيان كان يقول: «أسلمت عام القضيّة، ولقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعت إسلامى عنده، وقبل منى».
وكان من أمره بعد ما كان ولم يزل مع أخيه يزيد بن أبى سفيان، حتى توفى يزيد فاستخلفه على عمله، وأقره عمر، وعثمان ـ رضى الله عنهما ـ من بعد عمرو ركب البحر غازيا بالمسلمين إلى قبرس، فى خلافة عثمان.
ثم قال الزبير: وحدثنى أبو الحسن المدائنى، قال: كان عمر بن الخطاب إذا نظر إلى معاوية، قال: هذا كسرى العرب. وكان عمر ولاه على الشام، عند موت أخيه يزيد، وكان موت يزيد، على ما قال صالح بن دحية: فى ذى الحجة سنة تسع عشرة، بعد أن عمر فيها نائب عمر قيسارية، وبها بطارقة الروم، وحصرهم أياما، وخلف عليها معاوية، وسار هو إلى دمشق، فافتتحها معاوية، فى شوال هذه السنة. وكتب إليه عمر بعهده على ما كان يليه يزيد من عمل الشام، ورزقه ألف دينار فى كل شهر، وقيل إنه رزقه على عمله بالشام، عشرة آلاف دينار كل سنة، حكاه ابن عبد البر.
أقام معاوية واليا لذلك أربع سنين، بقيت من خلافة عمر، فلما مات عمر أقره عثمان على ذلك، حتى مات عثمان. ولما بلغه موت عثمان، وأتاه البريد بموته بالدماء مضرجا، نعاه معاوية إلى أهل الشام، وتعاقدوا على الطلب بدمه، وامتنعوا من مبايعة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكان قد بويع بالمدينة بعد قتل عثمان، فسار علىّ رضى الله عنه من العراق نحو أهل الشام، فى سبعين ألفا أو تسعين ألفا، وسار إليه معاوية فى ستين ألفا، فالتقى الفريقان على أرض صفين، بناحية العراق، ودام الحرب والمصابرة أياما ولياليا، قتل فيها من الفريقين، أزيد من ستين ألفا.