ولما رأى أهل الشام ضعفهم عن أهل العراق، نصبوا المصاحف على الرماح، وسألوا الحكم بما فيها، وأجابهم علىّ رضى الله عنه إلى ذلك، واتفق الحال على تحكيم حكمين، أحدهما من جهة علىّ، والآخر من جهة معاوية، وأن الخلافة تكون لمن يتفق عليه الحكمان، وتحاجزوا عن القتال.
ثم إن عليا رضى الله عنه، أتى بأبى موسى الأشعرى حكما، وندب معاوية، عمرو ابن العاص حكما، ومع كل من الحكمين طائفة من جماعته، واجتمعوا بدومة الجندل، على عشرة أيام من دمشق، وعشرة من الكوفة، فلم يبرم أمر، لأن عمرا خلى بأبى موسى الأشعرى وخدعه، بأن أو همه أنه يوافقه على خلع الرجلين، على ومعاوية، وتولية الخلافة لعبد الله بن عمر بن الخطاب، على ما قيل: وكان عند أبى موسى ميل إلى ذلك، وقرر عمرو مع أبى موسى، أنه يقوم فى الناس، ويعلمهم بخلعه لعلى ومعاوية، ثم يقوم عمرو بعده ويصنع مثل ذلك، ولولا ما لأبى موسى من السابقة فى الإسلام، لقام عمرو بذلك قبله. فصنع أبو موسى ما أشار إليه عمرو، ثم قام عمرو فذكر ما صنعه أبو موسى، وذكر أنه وافقه على ما ذكر من خلع علىّ، وأنه أقر معاوية خليفة، ورجع الشاميون وفى ذهنهم أنهم حصلوا على شئ، فبايعوا معاوية.
وبعث إلى مصر جندا، فغلبوا عليها، وصارت بين جنده وجند علىّ رضى الله عنه، فلما مات علىّ، ولى ابنه الحسن الخلافة بعده، وسار من العراق ليأخذ الشام، وخرج إليه معاوية لقتاله بمن معه من أهل الشام.
ثم إن الحسن رغب فى تسليم الأمر لمعاوية، على أن يكون له ذلك من بعده، وأن يمكنه مما فى بيت المال، ليأخذ منه حاجته، وأن لا يؤاخذ أحدا من شيعة علىّ بذنب، ففرح بذلك معاوية، وأجاب إليه، فخلع الحسن نفسه وسلم الأمر لمعاوية، ودخلا الكوفة، فقام الحسن فى الناس خطيبا، وأعلم الناس بذلك، فلم يعجب شيعته، وذموه الناس لذلك، فلم يلتفت لقولهم، وحقق الله تعالى بفعل الحسن هذا، ما قاله فيه جده المصطفىصلى الله عليه وسلم:«إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
ولما سلم الحسن الخلافة لمعاوية، اجتمع الناس على بيعته، وسمى العام الذى وقع فيه ذلك، عام الجماعة، لاجتماع الأمة بعد الفرقة على خليفة واحد، وذلك فى سنة إحدى وأربعين من الهجرة، وقيل فى سنة أربعين، والأول أصح، على ما قال ابن عبد البر، وذكر أن ذلك فى ربيع أو جمادى سنة إحدى وأربعين. وبعث معاوية بعد ذلك نوابه على البلاد، وله فى ذلك أخبار مشهورة، ليس ذكرها هاهنا من غرضنا.