يمر على الوادى فتثنى رماله ... عليه وبالنادى فتبكى أرامله
فلم ير باكيا أكثر من ذلك اليوم. ثم ساروا به مع الحاج، فلما وصلوا إلى وادى المحرم، ألقى على تابوته شقة كأنه محرم، ثم أتوا به عرفات، وخرج أهل مكة باكين وصعدوا به إلى الجبل.
ثم نزلوا به إلى منى، واشتروا جمالا ونحروها عنه، ثم دخلوا به مكة، وطافوا به حول البيت، واشتغل الناس به عن البيت، من كثرة البكاء والصراخ، وخرج النساء المجاورات، التى كان يصل إليهن بره، بين يدى تابوته يبكين ويصرخن، وكان يوما عظيما، وساروا به إلى المدينة، فخرج أهلها وفعلوا كما فعل أهل مكة، ودخلوا به إلى الروضة، فصلوا عليه وحملوه إلى رباطه، فدفنوه به، وبين رباطه وبين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذرع، عرض الطريق.
وكان فصيحا، ولما حبس قال:
أين اليمين وأين ما عاهدتنى ... ما كان أسرع فى الهوى ما خنتنى
وتركتنى حيران صبا مدنفا ... أرعى النجوم وأنت ترقد هاهنى
فلأرفعن إلى إلهى قصة ... بلسان مظلوم وأنت ظلمتنى
ولأدعون عليك فى غسق الدجى ... فعساك تبلى بالذى أبليتنى
ولم يحمل إلى مكة ميت قبله، سوى الحرة ملكة عدن، وابن رزيك أخو الصالح طلائع، والخادم أرهست صاحب عمان، انتهى.
قلت: وما ذكره صاحب المرآة، من أنه لم يحمل إلى مكة ميت قبل الجواد سوى من ذكرهم ـ وهم بلا ريب ـ لأنه حمل إلى مكة قبل الجواد هذا، الوزير أبو الفضل جعفر ابن الفضل بن الفرات، المعروف بابن حنزابة.
ومن العجب أن صاحب المرآة ذكر ذلك، وذكر أنه فعل له ما فعل بالجواد، من الطواف بالبيت، وإحضاره عرفة، والذهاب به إلى المدينة، ودفنه فى تربة هناك. وذلك فى سنة إحدى وتسعين وثملاثمائة. وفيها مات فى شهر ربيع الأول بمصر. وذكر أنه كان يبعث فى كل سنة لأهل الحرمين مالا وكسوة وطعاما.
ووهم أيضا الذهبى فى قوله فى ترجمة الجواد: إنه دفن بالبقيع؛ لأنه إنما دفن برباطه، كما ذكر صاحب المرآة وغيره.
قال الذهبى: ولقد حكى ابن الأثير فى ترجمة الجواد: مآثر ومحاسن لم يسمع بمثلها فى الأعمار.