شيئا، فأكدوا لموسى أنهم لا يدخلون هذه الأرض مدى حياتهم ما دام فيها الجبارون، لأنهم لا طاقة لهم بالحرب والقتال، إذ ليسوا من أهله، فإن صحت عزيمتك على ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك فقاتلا الجبارين وأخرجاهم من هذه الأرض وإنا هاهنا قاعدون منتظرون.
وهذا القول الذي صدر منهم بدل على منتهى الجفاء والبعد عن الأدب، وليس هذا بالغريب من أمثال هؤلاء الذين عبدوا العجل وكان دأبهم الشّغب مع أنبيائهم وقتلوا كثيرا منهم كإشعيا وزكريا، وقص القرآن كثيرا من فساد طباعهم وقسوتهم وغلظتهم.
(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) أي قال موسى باثا شكواه إلى ربه، معتذرا من فسق قومه عن أمره الذي يبلّغه عنه- إنى لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسى وأمر أخى ولا أثق بغيرنا أن يطيعك فى اليسر والعسر والمنشط والمكره (المحبوب والمكروه) .
وفى هذا إيماء إلى أنه لم يكن موقنا بثبات يوشع وكالب ورغبتهما فى الطاعة إذا أمر الله بدخول أرض الجبارين والتصدّى لقتالهم، فإن من يجرؤ على القتال مع الجيش الكبير فربما لا يجرؤ عليه مع العدد القليل، فلما رأى من بلائه معه فى مقاومة فرعون وقومه، ولسياسة أمور بنى إسرائيل عند مناجاة ربه، ولما يعلم من تأييد الله له بمثل ما أيده به (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفرق: الفصل بين الشيئين أو الأشياء أي فافصل بيننا (يريد نفسه وأخاه) وبين القوم الفاسقين عن طاعتك بقضاء تقضيه بيننا، فتحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، فقد صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا، وقيل إن المعنى: إنك إذا أخذتهم بالعقاب على قسوتهم فلا تعاقبنا معهم فى الدنيا.
(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) التيه: الحيرة، يقال تاه يتيه: إذا تحيّر ومفازة تيهاء إذا تحير فيها سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها،