كل واحد منها في حكم الميت، ومثل هذا الجمع لا يسمى أمة، لأن كل واحد يعيش وحده وإن كان مع غيره على ظهر الأرض، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم، ويتعاون الجميع على حفظ الوحدة الجامعة لهم، وبها تتكون الأمة الناجحة في الحياة.
فالأمم لا تنهض إلا بمثل هذا التعاون ومساعدة الغنى للفقير وإعانة القوى للضعيف، وبهذا يظهر القليل على الكثير وتكون له السيادة.
ثم ذكر مننه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال:
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي على هذا النحو من البيان قضت الحكمة بأن يبين لكم الأحكام التي فيها مصالحكم ومنافعكم، ويوجه عقولكم إلى ما فيها من منافع ومضارّ.
ثم ذكر الحكمة في شرع هذه الأحكام فقال:
(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي لتتفكروا في شئونهما معا، فتجتمع لكم مصالح الروح والجسد وتكونوا أمة وسطا، لا كمن ظنوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها فخسروها وخسروا الآخرة، إذ الدنيا مزرعة الآخرة، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات، ففسدت أخلاقهم، وأظلمت أرواحهم، وصاروا كالبهائم، وخسروا الآخرة والدنيا.
وهذه الآية وما ماثلها ترشد إلى أن الإسلام هاد إلى سعة دائرة الفكر واستعمال العقل فى مصالح الدارين معا، ومن ثم قال العلماء إن الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس فى معايشهم- من الفروض الدينية، إذا أهملت الأمة شيئا منها ولم يقم من أفرادها من يكفيهم أمرها، كانت عاصية لأمر ربها مخالفة لدينه.
وعلى هذا سارت الأمة الإسلامية في القرون الأولى، فكانت إذا احتاجت إلى شىء مما يستدعيه التوسع في العمران، عدّت القيام به من فروض الدين- إلى أن غلا أقوام فى الدين وأهملوا مصالح الدنيا زعما منهم بأن ذلك من الزهد المطلوب والتوكل المحبوب، وما هو منهما في شىء، وكان نتيجة ذلك أن أهملت الشريعة، ولم توجد أمة إسلامية تقيمها، ولم يعد من المسلمين من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها