ثم بين الحكمة في الأوامر والنواهي المتقدمة بعد ذكرها، وتلك سنة القرآن يذكر الأحكام، ثم يذكر أسرارها وفوائدها لتكون أثبت في النفس، وأثلج للقلب قال:
(ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي ذلك الحكم أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأعون على إقامة الشهادة على وجهها.
وفي هذا إيماء إلى أن للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكر ما كان من الأحوال حين كتابتها وإملائها.
وقوله: أدنى ألا ترتابوا أي إنه أقرب إلى نفى ارتياب بعضكم من بعض، إذ هذا الاحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها، ومراعاة العدل من المتعاملين والكتّاب والشهداء يدفع الارتياب وما ينشأ منه من مفاسد كالعداوات والمخاصمات- وهذه ميزة ثالثة تؤكد الأخذ بها والاعتماد عليها وجعلها مذكرة للشهود.
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أي إن الكتابة مطلوبة إلا أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطى بأن يأخذ المشترى المبيع والبائع الثمن، فلا حرج حينئذ في ترك الكتابة ولا إثم في ذلك، إذ لا يترتب عليه شىء من التنازع والتخاصم.
وفي هذا إشارة إلى ما يجب على المرء في ضبط أمواله وإحصاء ما يرد إليه وما يصدر عنه، وهذا منتهى الرقى المدني، هدى إليه الإسلام قبل أن يعرفه الغربيون ذوو الحضارة والمدنية بعدة قرون، ولم يجعل ذلك أمرا محتوما لما فيه من المشقة على غير الأمم ذات التقدم والحضارة.
(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أي وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة، إذ قد يحصل التنازع والخلاف في بعض العقود الحاضرة بعد تمام العقد، فاكتفى بالإشهاد.
أما الديون المؤجلة فربما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود، إذ هى مما يطول زمنها ومن ثم وجبت كتابتها.