للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فصل: واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله فقال: إن أراد المانع ما هو على خلاف الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي فمسلم. وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك. بل قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بالحنيفية السمحة" يقتضي جواز ذلك، لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد، بل بتحصيل المصالح. وأنت تعلم بما تقدم ما في هذا الكلام، لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها. وليس تتبع الرخص ولا ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى. فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه، ومضاد أيضا لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاء: ٥٩] وموضع الخلاف موضع تنازع، فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه، لا الموافق للغرض.

فصل: وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيه الضرورة وإلجاء الحاجة، بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب، أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب. فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم؛ فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر. ومحال الضرورات معلومة من الشريعة؛ فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع، فلا حاجة إلى الإنتقال عنها؛ وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش، ودعوى غير مقبولة. وقد وقع في نوازل ابن رشد من هذا مسألة نكاح المتعة. ويذكر عن الإمام المازري أنه سئل: ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان - والضرورات تبيح المحظورات - من معاملة فقراء أهل البدو في سني الجدب، إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم: ما عندنا إلا الطعام فربما صدقوا في ذلك، فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم، خوفا أن يذهب حقهم في أيديهم بأكل أو غيره؛ لفقرهم، ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته، ولأحكام بالبادية أيضا، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة، وإباحة كثير من فقهاء

<<  <  ج: ص:  >  >>