للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال الشاطبي: إن المسألة أشكلت على طائفة، منهم ابن عبد البر، فإنه قال: "الخلاف لا يكون حجة في الشريعة". وما قاله ظاهر، فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم، وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم؛ فمنهم من تأول العبارة ولم يحملها على ظاهرها، بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها، وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء ويكون هو الراجح ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف، فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر، فالأول فيما بعد الوقوع، والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان، فليس جمعا بين متنافيين ولا قولا بهما معا، هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس، وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي، وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف وسيأتي للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله. على أن الباجي حكى خلافا في اعتبار الخلاف في الأحكام، وذكر اعتباره عن الشيرازي. واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط. ولو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا في جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ لكان ذلك صحيحا. فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط. وما قاله غير ظاهر؛ لأمرين (١).

أحدهما: أن هذا الدليل مشترك الإلزام، ومنقلب عن المستدل به إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ثم يقول: لو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا في جواز أكله فإن جلده لا يطهر بالدباغ لكان ذلك صحيحا، فكذلك إذا علق الحكم بالاستنباط. ويكون هذا القلب أرجح، لأنه مائل إلى جانب الاحتياط. وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه.

والثاني: أنه ليس كل جائز واقعا، بل الوقوع محتاج إلى دليل. ألا ترى أنا نقول يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء، وأن شرب الماء الساخن


(١) الموافقات ٤/ ص ١٠٩ - ١١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>