فإنهم أخذوا فيها بأعلى الأحوال وأكملها "و" في ذلك السبيل "آثروا" أي اختاروا الأخذ بمقتضى "القواعد المكية" عامة المطلقة المقدم بيانها، وإنما اختاروها وآثروها على الأحكام التفصيلية المدنية "لأنها" أي القواعد المكية المذكورة "العزائم الأصلية"، و"مع" ذا أمر آخر وهو "كونها" أي القواعد المكية "جوامع التكليف" إذ كل ما نزل بالمدينة إنما هو بيان أو شرح، أو تفصيل لها - كما تقدم ذكره -، وكذلك كونها "غير مناط" أي متعلق ومحل "النسخ والتخفيف" إذ هذا محله الأحكام المدنية، كما سبق ذكره.
[ومن ها هنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورًا لا توجد عند العامة ولا هي مما يلزمهم شرعا فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ وتنزيل أعمالهم تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبك فخمسة دراهم وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره بل وكل إلى اجتهاد المنفق ولا شك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب والاحتياط في مثل هذه المبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق فأخذ هذا المسؤول في خاصة نفسه بما أفتى به والتزمه مذهبا في تعبده وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة وإسقاطا لحظوظ نفسه وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السموات والأرض وأنه قال:{لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ}[طه: ١٣٢] وقال {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[الذاريات: ٥٧] وقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢)} [الذاريات: ٢٢] ونحو ذلك فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ومثله لا يقال في