الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر. ومثلها النواهي: فإذا نهي عن النظر إلى الأجنبيات من النساء وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه، أو نهي عن الكذب وهو صادق اللسان، أو عن الزنى وهو لا يزني، أو عن التفحش وهو لا يتفحش، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم، وما أشبه ذلك فهو الصادق الفتيا والذي يقتدي بقوله ويقتدي بفعله، وإلا فلا، لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء، ولذلك قال تعالى:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}[الأحزاب: ٢٣] وقال في ضده: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ}[التوبة: ٧٥] إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة: ٧٧] فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل، وفي الكذب مخالفته. وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)} [التوبة: ١١٩] وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهى فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة، فإن وافق صدق وإن خالف كذب. فالفتيا لا تصح مع المخالفة، وإنما تصح مع الموافقة وحسب الناظر من ذلك سيد البشر صلى الله عليه وسلم، حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاء والتمام، حتى أنكر على من قال: يحل الله لرسوله ما شاء. وحين سأله الرجل عن أمر فقال:(إني أفعله) فقال له: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر غضب صلى الله عليه وسلم وقال:(والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) وفي القرآن عن شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}[الأعراف: ٨٩] وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}[هود: ٨٨] فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا. وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وعبادة غير الله إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله. وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة، بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ويأتونه - عياذا بالله من ذلك - لكان ذلك أولى منفر وأقرب صاد عن الاتباع. فمن كان في رتبة الوارثة لهم فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول ولما نهى عن الربا قال:(وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب) وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال: (وأول دم أضعه دمنا دم ربيعة بن الحارث) وقال حين شفع له في حد السرقة: (والذي نفسي بيده لو