وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول. ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم، لكن الأمر على خلاف ذلك فدل على أنه ليس مما يعترض عليه، وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليلا يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الاعتقادية فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية، كقوله:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ}[الروم: ٢٨] الآية وقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا}[الأعراف: ١٩٥] وأشباه ذلك واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهة ولا قريبة من البديهة هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية فدخلوا في أشد مما منه فروا ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولا بالشريعة فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود (١).
"و" قد مضى "قبل" فيما تقدم و "مر أن مجرى العادات تخاطبا" أي في شأن التخاطب "معتمد الإفادة" - فيه إضافة الصفة للموصوف أي إفادته معتمدة - بل هو قطعي في الجملة وإن طرق العقل إليه احتمالات، فكذلك العبارات لأنها في الوضع الخطابي تماثل مجاري العادات، أو تقاربها. "كما مضى" أيضا ذكر "كيف" يحصل "اقتناص" واستخراج إفادة "القطع" والجزم "مما" من الدلالة ينسب لإفادة "لظن في الدليل الشرعي" وذلك الكيف هو الاستقراء لأحوال الأدلة ومقتضياتها الظنية وضم بعضها إلى بعض حتى يحصل القطع بمدلولاتها وهذا مفصل في تضاعيف ما تقدم بيان سبيل هذا القنص وكيفيته "هو خصوصية ذا الكتاب" وما انفرد فيه بالسبق يدرك هذا منه من تأمله ومقتضى هذا السبيل "وحكمه يعم" كل الأدلة الظنية الشرعية ويجري أمره "في" جميع "الأبواب" كما مر ذكر ذلك في المقدمة الثالثة.