السفر مظنة المشقة بإطلاق وإبدال الدرهم بالدرهم مظنة لاختلاف الأغراض بإطلاق وكذلك سائر المسائل التي في معناها فليجز التسبب بإطلاق بخلاف المحلوف بطلاقها بإطلاق، فإنها ليست بمظنة للحكمة، ولا توجد فيها على حال. لأنا نقول: إنما نظير السفر بإطلاق، نكاح الأجنبية بإطلاق، فإن قلتم بإطلاق الجواز مع عدم اعتبار وجود المصلحة في المسألة المقيدة، فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها؛ لأنها سورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات، بخلاف نكاح القرابة المحرمة، كالأم والبنت مثلا، فإنها محرمة بإطلاق فالمحل غير قابل بإطلاق، فهذا من الضرب الأول، وإذا لم يكن ذلك فلا بد من القول به في تلك المسائل، وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا، وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها، إذا كان المحل في نفسه قابلا؛ لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا. وهذا معقول.
ثالثها: أن اعتبار وجود الحكمة في المحل عينا لا ينضبط، لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها، فكم ممن طلق على أثر إيقاع النكاح، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع، وإذا لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصح توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة؛ لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور محال، فإذا لا بد من الانتقال إلى اعتبار مظنة الحكمة ومظنة قبول المحل لها على الجملة كافيا. هذا ما استدل به أهل هذا المذهب.
واستدل مخالفوهم - وهم من ذهبوا إلى أن السبب تقصد شرعيته بوجود هذا الأمر الخارجي المسقط لحكمته الموجود في محله - بأمور: أحدها: أن قبول المحل إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن خاصة، وإن فرض أنه غير قابل في الخارج فما لا يقبل لا يشرع التسبب فيه. وإما بكونه توجد حكمته في الخارج؛ فما لا توجد حكمته في الخارج لا يشرع أصلا كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو لا، فإن كان الأول فهو غير صحيح؛ لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد، وهي حكم المشروعية؛ فما ليس فيه مصلحة ولا هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج، فقد ساوى ما لا يقبل المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج، من حيث المقصد الشرعي. وإذا استويا امتنعا أو جازا؛ لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه. فلا بد من القول