العقول، نعم لا ينكر تفاضل الإداركات على الجملة وإنما النظر في القدر المكلف به ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها حتى قال لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله وثبت النهى عن كثرة السؤال وعن تكلف ما لا يعنى عاما في الاعتقادات والعمليات وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدى العقول لفهمها مما سكت عنه أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه وعلى هذا فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ولله در القائل:
وللعقول قوى تستن دون مدى … إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات
ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها. وأما العمليات فمن مراعاة الأمية فيها إن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور، بحيث يدركها الجمهور؛ كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم، كتعريفها بالظلال، وطلوع الفجر والشمس، وغروبها وغروب الشفق. وكذلك في الصيام في قوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}[البَقَرَة: ١٨٧] ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها نزل: {مِنَ الْفَجْرِ}[البَقَرَة: ١٨٧]. وفي الحديث:"إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم" وقال: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا" وقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل؛ لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها، ولدقة الأمر فيه، وصعوبة الطريق إليه. وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين، وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم، وعفا عن الخطأ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور، فلا يصح الخروج عما حُدَّ في الشريعة، ولا تَطلُّب ما