ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة فذاك؛ ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه، وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه. وإن لم يعمل بالرخصة فعلى وجهين: أحدهما: أن يعلم أو يظن أنه يدخل في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت، ويكره بسببه العمل، فهذا أمر ليس له، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك، فحكمه الإمساك عما ادخل عليه المشوش، وفي مثل هذا جاء: ليس من البر الصيام في السفر وفي نحوه نهي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان.
وقال: لا يقضي القاضي وهو غضبان وفي القرآن {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}[النِّسَاء: ٤٣] إلى أشباه ذلك مما نهي عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله؛ فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف.
والثاني: أن يعلم أو يظن انه لا يدخل عليه ذلك الفساد، ولكن في العمل مشقة غير معتادة، فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة، ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج، وإن قدر على الصبر فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة. إلا أن هنا وجها ثالثا وهو أن تكون المشقة غير معتادة لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ورب شيء هكذا؛ فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين غالى الله تعالى المعانين على بذل المجهود في التكاليف، قد خصوا بهذه الخاصية، وصاروا معانين على ما انقطعوا عليه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)} [البقرة: ٤٥] فجعلها كبيرة على المكلف، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا، وقام حتى تفطرت قدماه، فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية.