إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به، على ان يقوم الغير بمصالحه، فإن ذلك لا يجرى إلا إذا كان "بحيث لا يلحقهم إضرارُ به" أي بذلك القيام "ولا يطرقه" أي المكلف بذلك العمل القائم به "استضرار" أي ضرر. أما مضرة المكلف بذلك العمل العام مصلحته القائم به فإنها قد تكون "من" جهة لحاق "منة" به من القائمين على تحصيل مصالحه إذا تعينوا في القيام بأعيان تلك المصالح - أي بمصالح له معينة - والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات. وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول وقالت جماعة إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم إلى غير ذلك وأصله قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}[البقرة: ٢٦٤] فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة وما ذاك إلَّا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب (١).
وقد تكون تلك المضرة من جهة مظنة "أو تهمة" يرمي بها "منصبه" ومقامه "يأباها" لما فيها من الجرح له "ومن هنا" يؤخذ أنه "يمنع للحكام" أي عليهم "أخذ" وقبول "هديات" وصلات "أولي" أصحاب "الخصام" والتقاضي كما يمنع قبول هدايا الناس للعمال، إذ قد جعلها - عليه الصلاة والسلام الغلول الذي هو من كبائر الذنوب. وأما مضرة من يقوم بتحصيل مصالح ذلك القائم فإنها قد تكون من جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين، وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت أو في حال دون حال وبالنسبة إلى شخص دون شخص، ولا ضابط في ذلك يرجع إليه ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية التي ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب أو على الأموال هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التي طلب ذلك المكلف بإقامتها إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة فيكون سببا في إبطال الحق وإحقاق الباطل وذلك ضد المصلحة ولأجل الوجه الأول جاء في