رشد - من حال، أو معرفة وذلك أن بناء الاتباع في ذلك عن الهوى دليل أنه اتباع مبني على أمر غير صحيح، فلو بني اتباع تأويله وطلبه على غير الهوى وطلب الفتنة وإنما على طلب المراد به بصدق القصد والنية لما ظهر فيه ما يناقض العقول. إنما سيظهر راجعا إلى معقول موافق لا إلى مخالف لمقتضيات العقول، وإن فرص أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله - تعالى - فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي، لا لمخالفته لها، وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف.
وكذلك الأعجمي الطبع الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به. ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض وفيما لم يجز لهم الخوض فيه فتاهوا فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي.
كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما، إذ لا يصح له نظر حتَّى يكون عالما بهما، فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة، ولذلك مثال يتبين به المقصود وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون: ١٠١] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٧)} [الصافات: ٢٧] وقوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء: ٤٢]{رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام: ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية وقال: {بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨)} [النازعات: ٢٧، ٢٨] إلى قوله {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠)} [النازعات: ٣٠] فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}[فصلت: ٩] إلى أن قال {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}[فصلت: ١١] الآية فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفتح: ١٤].