" فـ" أما الأمر "الأول" وهو أنه لا يشترط في المجتهد في الأحكام الفقهية أن يكون مجتهدا في كل علم يتوقف عليه اجتهاده في الأمور الشرعية فإن "دليله" يؤخذ "من" جهة "النظر" وواقع الحال الجاري في هذا الشأن، وهو أمور:
أحدها: أنه لو كان ذلك واجبا لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى الصحابة، ونحن نمثل بالأئمة الأربعة: فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته، وأبو حنيفة كذلك، وإنما عدوا من أهله مالكا وحده، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ويبنى الحكم على ذلك، والحكم لا يستقل دون ذلك الاجتهاد. ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم، لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب؛ وليس الأمر كذلك بالإجماع.
والثاني: أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه، ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال، بل يقول العلماء أن من فعل ذلك فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات، فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الاسطقصات أربعة وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان، وغير ذلك من المقدمات، كذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}[المَائدة: ٦] بالخفض مروي على الصحة، ومن المحدث أن الحديث الفلاني صحيح أو سقيم، ومن عالم الناسخ والمنسوخ أن قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}[البقرة: ١٨٠] منسوخ بآية المواريث، ومن اللغوي أن القرء يطلق على الطهر والحيض، وما أشبه ذلك، ثم يبني عليه الأحكام. بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين، وهي مبنية على مقدمات مسلمة في علم آخر، مأخوذة في علم الهندسة على التقليد، وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية، ولم يكن ذلك قادحا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة، إذ كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها، كانت كذلك في نفس الأمر أولا وهذا أوضح من