والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر؛ بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل وهي إما مطلوب بالأصل وإما خادم للمطلوب بالأصل؛ لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج، أو تكليف ما لا يطاق وذلك مرفوع عن هذه الأمة فلا بد للإنسان من ذلك لكن مع الكف عما يستطاع الكف عنه. وما سواه فمعفو عنه، لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل. وقد بسطه الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الأحياء على وجه أخص من هذا. فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد (١).
وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه - فإن قيل فالحمام دار يغلب المنكر. فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه أن يكون مكروها. فكيف أن يكون جائزا؟ قلنا الحمام موضع تداو وتطهر، فصار بمنزلة النهر، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات، وتظاهر المنكرات، فإذا احتاج إليه المرء دخله، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه؟ والمنكر اليوم في المساجد والبلدان، فالحمام كالبلد عموما، وكالنهر خصوصا هذا ما قاله. وهو ظاهر في هذا المعنى.
وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها. وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج؛ وأما إذا لم يؤد إليه وكان في الأمر المفروض مع النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر، ويتجاذبها طرفان: فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحا. ويدخل أيضا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب، فإن لاعتبار الأصل رسوخا حقيقيا، واعتبار غيره تكليمي من باب التعاون. وهو ظاهر.
أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل فعلى خلاف ذلك، لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء وإن قلنا إنه مباح، إذا حضره منكر أو كان في طريقه، لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه، ولا هو خادم لمطلوب الفعل فلا يمكن والحالة هذه أن يستوفي المكلف حظه منه، فلا بد من تركه جملة؛ وكذلك اللعب وغيره. وفي كتاب الأحكام