للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي بني.. إني لما رأيتني قَدْ بلغت سنًا، ورأيتني أزداد وهنًا بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً مِنْهَا قبل أن يُعَجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما فِي نفسي، وأن أنقص فِي رأيي كما نقصت فِي جسمي، أَوْ يسبقني إليك بَعْض غلبات الهوى وفتن الدُّنْيَا، فتَكُون كالصعب النفور.

وإنما قلب الحدث كالأَرْض الخالية ما ألقي فيها من شَيْء قبلته، فبادرتك بالأَدَب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك من الأَمْر ما قَدْ كفاك أَهْل التجارب بغيته وتجربته، فتَكُون قَدْ كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذَلِكَ ما قَدْ كنا نأتيه، واستبان لَكَ ما ربما أظلم عَلَيْنَا منه.

أي بني.. إني وإن لم أكن عمرت عمر من كَانَ قبلي، فقَدْ نظرت فِي أَعْمَالُهُمْ، وفكرت فِي أخبارهم، وسرت فِي آثارهم حَتَّى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهِيَ إِلَيَّ من أمورهم قَدْ عمرت مَعَ أولهم إِلَى آخرهم، فعرفت صفو ذَلِكَ من كدره ونفعه من ضرره.

فاستخلصت لَكَ من كُلّ أمر نخيله وتوخيت لَكَ جميله، وصرفت عَنْكَ مجهوله، ورَأَيْت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عَلَيْهِ من أدبك أن يكون ذَلِكَ وأَنْتَ مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة ونفس صافية.

وأن إبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله، وشرائع الإِسْلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذَلِكَ بك إِلَى غيره، ثُمَّ أشفقت أن يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ ما اختلف النَّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الَّذِي التَبَسَ عَلَيْهمْ، فكَانَ أحكام ذَلِكَ على ما كرهت من تنبيهك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك الله لما فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك بوصيتي هَذِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>