والمؤاخاة فِي النَّاس على وجهين أحدهما أخوة مكتسبة بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار، وَالثَّانِيَة مكتسبة بالْقَصْد والاختيار، فَأَمَّا المكتسبة بالاتفاق فهي أوكد حالاً، لأنها تنعقَدْ عَنْ أسباب موجودة فِي الْمُتَآخِينَ، تعود المؤاخاة إِلَى تلك الأسباب، وهي موجودة فطرة.
فالمؤاخاة ضرورية لا يمكن دفعًا،كما لا يمكن دفع الإيلام، والمكتسبة بالْقَصْد، تعقَدْ لها أسباب اختيارية، تنقاد إليها، وتعتمد عَلَيْهَا بحسب قوتها وضعفها، وَرُبَّمَا تَكُون تَكَلُّفًا وخديعة، فتصير المؤاخاة معاداة، وما كَانَ جاريًا بِالطَّبْعِ فهو ألزم، مِمَّا هُوَ حادث بالْقَصْد.
إنما كَانَ كَذَلِكَ لأن الإتلاف بالتَّشَاكُلِ والتوافق، والتشاكل بالتجانس فإذا عدم التجانس من وجه، انتفى التشاكل من وجه ومَعَ انتفاء التشاكل يعدم الإئتلاف فثَبِّتْ أن التجانس، وإن تنوع أصل الإخاء وقاعدة الإئتلاف.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:«الأرواح جنود مجندة فما تعارف فيها ائتلف وما تناكر مَنْهَا اختلف» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، فالظواهر التي تبدو لَنَا ونراها فِي الاجتماعات العامة، ميل كُلّ امرئ إِلَى من يشاكله ويناسبه، روحَا وخلقَا، أَوْ دينَا، وأدبَا أَوْ مبدأ أَوْ مذهبَا أَوْ حرفة وعملاً.
قِيْل: إن إياسًا سافر إِلَى بلد فَلَمَّا وصل وصادف بَعْض أَهْل البلد وجرى بينهم كلام قَالَ إلياس: عرفنا خياركم من شراركم فِي يومين؟ فقِيْل لَهُ: كيف؟ ؟ قَالَ: كَانَ معنا خيارنا وشرارنا فلحق كُلّ بشكله خيارنا لحقوا بخياركم وشرارنا لحقوا بشراركم فألف كُلٌّ شكله. أ.هـ.