استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ولا رجا غفلة من سلطان ولا فترة من حاسد أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان وجعل في كل واحد منها قسمًا من المصلحة.
ثم انظر إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعنى الحياء فلولا هذا الحياء الذي خص الله به الإنسان لم يقر ضيفًا ولم يوف بالعدة ولم تقض الحوائج ولم ينجز الجميل ولم ينكب القبيح في شيء من الأشياء حتى إن كثيرًا من الأمور المفروضة أيضًا إنما تفعل للحياء فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ولم يصل ذا رحم ولم يؤد أمانة ولم يعف عن فاحشة أفلا ترى كيف وفي الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره.
وتأمل ما أنعم الله جل وعلا وتقدست أسماؤه على الإنسان به من هذا المنطلق الذي يعبر به عمَّا في ضميره وما يخطر بباله وفي قلبه وينتجه فكره به يفهم عن غيره ما في نفسه ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء ولا تفهم عن مخبر شيئًا.
وكذلك الكتابة التي بها تعيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات ولولاها لانقطع بعض الأزمنة عن بعض وأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم وما روي لهم مما لا يسعهم جهله.
وانظر لو لم يكن للإنسان لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للأمور