لم يكن ليتكلم أبدًا ولو لم يكن له كف مهيأة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدًا واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل وعلا وما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب ومن كفر إن الله غني عن العالمين.
وفكر فيما أعطي الإنسان علمه وما منع منه فإنه أعطى علم ما فيه صلاح دينه ودنياه فأما صلاح دينه فهو معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة وزكاة وصيام وحج ومن العدل بين الناس كافة وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأمانة ومواساة أهل الخلة وأشباه ذلك.
وكذلك أعطي ما فيه صلاح دنياه كالزراعة والغراسة واستخراج ما في الأرضيين واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط الماء ومعرفة العقاقير التي يستشفي بها بإذن الله من ضروب الأسقام والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر وركوب السفن والغوص في البحر وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار.
فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم كعلم الغيب وعلم ما في السماء وما تحت البحار وأقطار العالم وما في قلوب الناس وما في الأرحام وأشباه هذا مما حجب على الناس علمه فانظر كيف أعطى علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه وكلا الأمرين فيه صلاحه.
ثم تأمل ما ستر عنه علمه من مدة حياته فأنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع رقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه