واعْلَمْ يَا بني، إن أحب ما أَنْتَ آخذ به إِلَيَّ من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عَلَيْكَ، والأخذ بما مضى عَلَيْهِ الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك، فَإِنَّهُمْ لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أَنْتَ ناظر.
وفكروا كما أَنْتَ مفكر، ثُمَّ ردهم آخر ذَلِكَ إِلَى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فَإِنَّ أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذَلِكَ بتفهم وتعلم، ولا بتورط الشبهات وعلوا الخصومَاتَ.
وابدأ قبل نظرك فِي ذَلِكَ بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه فِي توفيقك، وترك كُلّ شائبة أَوْلجتك فِي شبهة أَوْ أسلمتك إِلَى ضلالة، فإذا أيقنت أن قَدْ صفا قلبك فَخَشَعَ، وتم رأيك فاجتمَعَ، وكَانَ همك فِي ذَلِكَ همًا واحدًا، فَانْظُرْ فيما فَسَّرْتُ لَكَ.
وإن لم يجتمَعَ لَكَ ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعْلَمْ أنَّكَ إنما تخبط العشواء وتتورط الظلماء، ولَيْسَ طالب الدين من خبط أَوْ خلط، والإمساك على ذَلِكَ أمثل.
فتفهم يَا بني وصيتي، واعْلَمْ أنَّ مالك الموت هُوَ مالك الحياة، وأنَّ الخالق هُوَ المميت، وأن المفني هُوَ المعيد، وأن الله هُوَ المعافي، وأن الدُّنْيَا لم تكن لتستقر إلا على ماجعلها الله عَلَيْهِ من النعماء والابتلاء، والجزاء فِي المعاد أَوْ ما شَاءَ مِمَّا لا نعلم.
فإن أشكل عَلَيْكَ شَيْء من ذَلِكَ فاحمله على جهالتك به، فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثُمَّ علمت، وما أكثر ما تجهل من الأَمْر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثُمَّ تبصره بعد ذَلِكَ، فاعتصم بالَّذِي خلقك ورزقك وسواك، وليكن لَهُ تَعَبُّدُكَ، وإِليه رغبتُك، ومنه شفقتك.