.. وَلا تَحسبنَّ سُرُورًا دَائِمًا أَبَدًا ... مَن سَرَّهُ زَمَن سَاءتْهُ أَزْمَانُ
يَا رَفِلاً فِي الشَّبَابِ الْوَجْفِ مُنْتَشِيًا ... مِنْ كَأْسِهِ هَلْ أَصابَ الرُّشْدَ نَشْوَانُ
لا تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ زَائِلٍ خَضَلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمْ قِبْلَ الشَّيْبَ شُبُّانُ
وَيَا أَخَا الشَّيْبِ لَوْ نَاصَحْتَ نَفْسَكَ لَمْ ... يَكُنْ لِمْثِلْكِ فِي الإِسْرَافِ إِمْعَانُ
هَبِ الشَّيْبَةِ تُبْلَى عُذْرَ صَاحِبها ... مَا عُذْرُ أَشْيبَ يَسْتَهْوِيهِ شَيْطَانُ
كَلُّ الذُّنُوب فَإِنَّ الله يَغْفِرُهَا ... إِنْ شَيَّعَ الْمَرْءِ إِخْلاصٌ وِإِيمَانُ
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرنُ
نَصِيحَة أَبِي حَازِمٍ التَّابِعِي لِسُلَيْمَانٌ بن عَبْدِ الْمَلِكِ
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانٌ بن عَبْد الْمَلِكِ وَدَخَلَ الْمَدِينَةِ زَائِرًا لِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَعَهُ ابْن شِهَابٍ الزُّهَرِي وَرَجَاءُ بن حَيْوَة، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيْامٍ، فَقَالَ: أَمَا هَا هُنَا رَجُلٌ مَمَّنْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقِيلَ لَهُ: بَلَى. هَا هُنَا رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَجَاءَهُ وَهُوَ أَقْوَرُ أَعْرَجُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانٌ إزْدَرَتْهُ عَيْنُهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَا هَذَا الْجَفَاءُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْكَ وَأَنْتَ تُوصَفُ بِرُؤْيَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ فَضْلٍ وَدِينٍ تُذْكَرُ بِهِ.
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَأَيُ جَفَاءٌ رَأَيْتَ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: أَنَّهُ آتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَاؤهَا وَخِيَارُهَا، وأَنْتَ مَعْدُودٌ فِيهِمْ وَلَمْ تَأْتِنِي. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنِكَ مَعْرِفَةٌ آتِيكَ عَلَيْهَا.
قَالَ سُلَيْمَانٌ: صَدَقَ الشَّيْخُ. فَقَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ، فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ النَّقْلَةَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ!
قَالَ سُلَيْمَانٌ: صَدَقْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى الآخِرَة؟ قَالَ: نَعَمْ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَإِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَى الآخِرَة كَالْغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ.