وكيف يكون محُسْن الظَّنِ بربه من هُوَ شارد عَنْهُ، حال مرتحل فِي مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قَدْ هان حقه وأمره عَلَيْهِ فأضاعه، وهان نهيه عَلَيْهِ فارتكبه وأصر عَلَيْهِ وكيف يحُسِّن الظَّنِ بربه من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه ووالى أعداءه، وجحد صفات لَهُ وأساء الظن بما وصف نَفْسهُ ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وظن بجهله أن ظاهر ذَلِكَ ضلال وكفر.
وكيف يحُسْن الظَّنِ بمن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى فِي حق من شك فِي تعلق سمعه ببَعْض الجزئيات، وَهُوَ السِّرّ فِي القول (٤١: ٢٣){وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} .
فهؤلاء لما ظنوا أن الله سُبْحَانَهُ لا يعلم كثيرًا مِمَّا يعملون كَانَ هَذَا إساءة لظنهم بربهم، فأرداهم ذَلِكَ الظن. وَهَذَا شأن كُلّ من جحد صفات كماله ونعوت جلاله، ووصفه بما لا يليق به، إِذَا ظن هَذَا أنه يدخله الْجَنَّة كَانَ هَذَا غرورًا وخداعًا من نَفْسهُ، وتسويلاً من الشيطان، لا إحسان ظن بربه.
فتأمل هَذَا الموضع، وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمَعَ فِي قلب الْعَبْد تيقنه بأنه مُلاقٍ الله، وأن الله يسمَعَ كلامه ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عيه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه ومسئول عَنْ كُلّ عمل وَهُوَ مقيم على مساخطه مضيع لأوامره معطل لحقوقه، وَهُوَ مَعَ هَذَا يحُسْن الظَّنِ به.
وهل هَذَا إلا من خدع النُّفُوس وغرور الأماني، وقَدْ قَالَ أبو سهل ابن حنيف: (دخلت أَنَا وعروة بن الزبير على عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فقَالَتْ: لو رأيتما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي مرض لَهُ، وكَانَتْ عنده ستة دنانير أَوْ سبعة دنانير، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أفرقها، فشغلني وجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى عافاه