وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الأيمان وضعف العقل والبصيرة، فأن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها، إما أن يصدق أن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وأما أن لا يصدق فإن لم يصدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها، وعدوها سجنًا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولو صلوا منها إلى كل مرغوب.
فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فأثروا بها ولم يبيعوا بها حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيادة حتى آذن بالرحيل.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب مال في ظل شجرة ثم راح وتركها» وقال «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» .