النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بِهَا الْعَبْد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هُوَ فيها لا يشعر بها. فإِذَا أراد إتمام نعمته عَلَى عبده، عرفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيداً يقيدها به حتي لا تشرد فإنها تشرد بالمعصية وتبقي بالشكر، ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصره بالطرق التي تسدد وتقطع طريقها، ووفقه لاجتنابِهَا، وإِذَا بِهَا قَدْ وافقته إليه عَلَى أتم الوجوه، وعرفه النعم التي هُوَ فيها ولا يشعر بها.
ويحكي أن أعرابياً دخل عَلَى الرشيد فَقَالَ: أمير الْمُؤْمِنِين ثَبِّتْ الله عَلَيْكَ النعم التي أَنْتَ فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أَنْتَ فيها ولا تعرفها لتشكرها، فأعجبه ذَلِكَ منه وَقَالَ: ما أحسن تقسيمه.
قال شقيق بن إبراهيم: أغلق باب التَّوْفِيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم فِي العلم وتركهم العمل والمسارعة إلي الذنب وتأخَيْر التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بأفعالهم، وإدبار الدُّنْيَا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عَلَيْهمْ وهم معرضون عنها.
قُلْتُ: وأصل ذَلِكَ: عدم الرغبة والرهبة، وأصله ضعف اليقين، وأصله ضعف البصيرة، وأصله مهانة النفس ودناءتها، واستبدال الَّذِي هُوَ أدني بالَّذِي هُوَ خير.
النَّاس مُنْذُ خلقوا لم يزالوا مسافرين، ولَيْسَ لّهُمْ حط من رحالهم إلا فِي الْجَنَّة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبني عَلَى المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يطلب فِيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذَلِكَ بعد انتهاء السفر.