للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} ففِي الآيات الإشارة إلي خلق الإنسان وإلي آخر أمره وإلي وسطه، أما أوله فهو أنه لم يكن شيئاً مذكوراً وقَدْ كَانَ فِي حيز العدم دهوراً، ثُمَّ خلقه العزيز الحكيم من تراب ثُمَّ من نطفة ثُمَّ من علقة ثُمَّ من مضغة ثُمَّ جعله عظاماً ثُمَّ كسا العظام لحماً، فقَدْ كَانَ هَذَا بداية وجوده أولاً جماداً لا يسمَعَ ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم، كَذَا خلقه الله.

ثُمَّ امتن عَلَيْهِ فَقَالَ: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي بينه وأوضحه وسهله، كما فِي قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فالله جَلَّ وَعَلا هُوَ الَّذِي أحيا الإنسان بعد أن كَانَ جماداً ميتاً، تراباً أولاً ونطفة ثانياً، وأسمعه بعد أن كَانَ أصم وبصره بعد ما كَانَ فاقَدْ البصر، وقواه بعد الضعف، وعلمه بعد الجهل، كما قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

فمن كَانَ هَذَا أوله، وهذه أحواله، فمن أين لَهُ البطر والأشر والكبرياء والخيلاء؟ وَهُوَ الضعيف الحقير بِالنِّسْبَةِ إلي قدرة البارئ جَلَّ وَعَلا كما قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} وَقَالَ: {خلقناهم مِمَّا يعلمون} وَقَالَ: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} فليتأمل العاقل هل يليق الكبر بمن هَذَا أوله، وآخره أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته وجماله وَجَمِيع أحواله، فيعود كما كَانَ أولاً جماداً، لا يبقي إلا شكل أعضائه وصورته فِيه ولا حركة، ثُمَّ يوضع فِيه ذَا التُّرَاب فيصير جيفة منتناً، كما كَانَ فِي الأول نطفة مذرة، تبلي أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه، وتنخر عظامه ويصير رميماً وفاتاً ويأكل الدود أجزاءه،

<<  <  ج: ص:  >  >>