للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإِسْلامِيَّةِ، وَفِي الْحَجِّ تَذَكُّرٌ لِحَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَقَامَاتِ الأَصْفِيَاءِ الْمُخْلَصِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} وَتَذْكِيرٌ بِحَالِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامهم، وَمَقَامَاتِه فِي الْحِجِّ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَقَامَاتِ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّذْكِيرَاتِ، فَإِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِأَحْوَالِ عُظُمَاءِ الرُّسُلِ، إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَآثِرَهُمْ الْجَلِيلَةِ، وَتَعَبُّدَاتِهِمْ الْجَمِيلَةِ وَالْمُتَذَكِّرُ بِذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِالُّرُسِل، مُعَظِّمٌ لَهُمْ، مُتَأَثِّرٌ بِمَقَامَاتِهِمْ السَّامِيَةِ، مُقْتَدٍ بِهِمْ، وَبَآثَارِهِمْ الْحَمِيدَةِ، ذَاكِرٌ لِمَنَاقِبِهم وَفَضَائِلِهِمْ، فَيَزْدَادُ بِهِ الْعَبْدُ إِيمَاناً وَيَقِيناً.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ تَصْفِيَةُ النَّفْس، وَتَعْوِيدُهَا الْبَذْلَ وَالإِنْفَاقَ، وَتَحَمُّلَ الْمَشَاقِ، وَتَرْكَ الزِّينَةِ وَالْخُيَلاءِ، وَمِنْهَا شُعُورُ الْمَرْءِ بِمُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ، فَلا مَلِكَ وَلا مَمْلُوكَ، وَلا غَنِيٌّ وَلا فَقِيرٌ، بَلْ الْكُلُّ هُنَاكَ سَوَاءٌ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ التَّنَقُل في الْبِلادِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهَا، وَعَادَاتِ سُكَّانِهَا، وَزِيَارَةِ مَهْبَطِ الْوَحْي، وَالرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ تَذَكِّرُ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي، وَيَنْفِذُهُمْ الْبَصَرُ، وَذَلِكَ فِي الْمَحْشَرِ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حُفَاةً عُرَاةً غُرّاً، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى فِرَاقِ الأَهْلِ وَالْوَلَدِ، إِذْ لا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، فَلَوْ فَارَقَهُمْ فَجْأَةً حَصَلَ صَدْمَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْفِرَاقِ، وَمِنْ مَحَاِسِن الْحَجِّ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَهُ يَتَزَوَّدُ لِسَفَرِهِ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، مُدَّةَ ذِهَابِهِ وَإِيَابِهِ، فَيَتَزَوَّدَ لِلْعُقْبَى، وَهِيَ السَّفَرَةُ الطَّوِيلَةُ، الَّتِي لا رُجُوعَ بَعْدَهَا، حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.

وَفِي سَفَرِ الْحِجِّ قَدْ يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَلا يَجِدُ فِي الْعُقْبَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ، إِلا إِذَا تَزَوَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّ الإِنْسَانَ يَعْتَادُ التَّوَكُلَ عَلَى اللهِ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنُه أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ لِلْحَجِّ، فَلابُدَّ مِنَ التَّوَكُلِ عَلَى اللهِ تَعَالى فِيمَا حَمَلَهُ، وَفِيمَا لَمْ يَحْمِلْهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَيَعْتَادُ تَوَكُّلَهُ إِلى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ نَزَعَ الْمَخِيطَ الذِي هُوَ لِبَاسُ الأَحْيَاءِ، وَيَلْبِسُ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَشْبَهُ بِلِبَاسِ الأَمْوَاتِ، فَيَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ فِي الاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَهُ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي يَصْعُبُ حَصْرُهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>