والرّجوع إلى الله. نعوذُ باللهِ مِنْ سوءِ الخاتِمَةِ. ولِذَلكَ كان السَّلَفُ الصالحُ تكَادُ تنخلعُ قلوبُهم في كلِ مَرْضةٍ يَمْرَضُونَها، لاحْتِمالِ أنْ تكون تلك المَرْضَةُ إخراجًا لهم مِنَ الدُنيا قبلَ أن يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَدارُكِ ما فاتَ مِنَ الهَفَواتِ بالتوبة النّصُوحِ ولِلاسْتِكْثَارِ مِنَ الباقياتِ الصالحاتِ. ومَرِضَ مرةً بعضُ الصالحينَ فدخَلَ عليهِ أصحابُهُ يَعُودُونَهُ فقالوا له: كيفَ تجدُكَ؟ قال: مُوَقِّرًا بالذنوبِ، فقالوا: هَلْ تَشْتَهي شيئًا؟ قال: نعم! أنْ يَمُنَّ عليَّ ربي بالتوبةِ عن كلِ ما يَكَرَهُ قبلَ موتي.
وقد قال العلماءُ: ما مِثالُ المُسَوّفِ بالتوبةِ إلا مثال مَنْ احتاج إلى قلْع شجرةٍ فرآها قَويةً لا تنقلعُ إلا بمشقةٍ شديدةٍ فقال: أوْ أَخِّرُها سنة ثُم أعودُ إليها وهو يعلمُ أنّ الشجرة كُلما بَقِيتْ ازدادتْ قوةً لرُسُوخِها وكلما طال عُمُرُهُ ازْدَادَ ضَعْفُه فلا حَماقةَ في الدنيا أعظمُ مِن حَماقِتهِ إذْ عَجَزَ معَ قُوَّتِهِ عن مُقاومةِ ضعيفٍ فأخَذَ يَنْتَظِرْ الغَلَبَةَ عليه إذا ضعُفَ هو في نفسِهِ وقويَ الضعيفُ.
قال ابُن القيمِ رحمه الله: إذا أرادَ اللهُ بعبدِهِ خَيْرًا فَتَحَ لهُ أبوابَ التوبةِ والندَمِ والانكِسارِ والذُلِ والافتقارِ والاستِعانَةِ بِهِ وصِدْق اللجأ إليهِ ودوامَ التضرُّع والدعاءِ والتقرب إليه بما أمكنَ مِنَ الحسنات ما تكون تلكَ السَّيئَةُ به سببَ رحمتِهِ حتى يقولَ عدُوُّ اللهِ: يالَيتَني تركتُهُ ولمْ أُوقِعْهُ وهذا معنى قول بعض السلفِ: إنّ العبدَ لَيَعْمَلُ الذنبَ يَدْخُلُ بِهِ الجنةَ، ويَعملَ الحسنةَ يدخلُ بها النارَ، قالوا: كيفَ؟ قال: يعملُ الذنبَ فلا يزالُ نُصْبَ عينيهِ خائفًا منهُ مُشْفِقًا وَجلاً باكيًا نادِمًا مُسْتَحْيًا مِنْ رَبِّهِ تعالى ناكِسَ الرأسِ بَينَ يدَيهِ مُنْكسرَ القَلْبِ له فيكونُ ذلك الذنبُ أنفعَ له مِنْ طاعات كثيرةٍ بما ترتَّبَ عليه مِنْ هذه الأموِر التي بها سعادُة العبدِ وفلاحُهُ حتى يكونَ ذلك الذنبُ سبَبَ دخولِ الجنةِ.
ويَفْعَلُ الحَسَنةَ فلا يَزَالُ يَمُنُّ بها على ربِّهِ ويَتَكَبَّرُ بها وَيَرَى نَفْسَهُ شيئًا