للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا يَعْرُضُ عَلَيْكَ أَبِي وَبَيْنَ تَرْكِهِ، فَاقْبِلْ يُحِبُّ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَيَسْمَعَ مِنْكَ. فَأَقْبَلَ وَالْجَارِيَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَبَّتْ الرِّيحُ، فَوَصَفَتْهَا لَهُ وَكَانَتْ ذَاتَ خَلْقٍ كَامِلٍ: فَقَالَ لَهَا كُونِي وَرَائِي وَأَرِينِي سَمْتَ الطَّرِيقِ.

فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ: اسْتَأْذِنِي لَنَا. فَدَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ مَعَ قُوَتِهِ لأَمِينٌ، فَقَالَ شُعَيْبُ: وَبِمَ عَرِفْتِ ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَتْهُ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحُ عَلَيْهَا. فَقَالَ: ادْخِلِيهِ، فَدَخَلَ فَإِذَا شُعَيْبٌ قَدْ وَضَعَ الطَّعَامَ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: أَصِبْ مِنْ طَعَامِنَا يَا فَتَى. فَقَالَ مُوَسى: أَعُوذُ بِاللهِ. قَالَ شُعَيْبُ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنَّي مِنْ بَيْتٍ لا نَبِيعُ دِينَنَا بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا.

قَالَ شُعَيْبٌ: لا وَاللهِ مَا طَعَامِي كَمَا تَظُنُّ وَلَكِنَّهُ عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي: نُقْرِي الضَّيْفَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ؛ فَجَلَسَ مُوَسَى فَأَكَلَ. وَهَذِهِ الدَّنَانِيرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي فَلَئِنَّ آكُلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آخُذُهَا.

فَأَعْجَبَ سُلَيْمَانٌ بِأَمْرِهِ عَجَبًا شَدِيدًا. فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ النَّاسَ كُلُّهُمُ مِثْلَهُ، قَالَ: لا. قَالَ الزُّهَرِيُّ: إِنَّهُ لَجَارِي مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَة مَا كَلَّمْتُهُ قَط.

فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: صَدَقْتَ لأَنَّكَ نَسِيتَ اللهَ فَنَسِيتَنِي وَلَوْ ذَكَرْتَ اللهَ لَذَكَرْتَنِي. قَالَ الزُّهَرِيُّ: أَتَشْتِمُنِي؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانٌ: بَلْ أَنْتَ شَتَمْتَ نَفْسَكَ، أَوْ مَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْجَارِ عَلَى الْجَارِ حَقًّا؟

قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ كَانَتْ الأُمَرَاءُ تَحْتَاجُ إِلَى الْعُلَمَاءِ، وَكَانَتْ الْعُلَمَاءُ تَفُرُّ بِدِينِهَا مِنَ الأُمَرَاءِ.

فَلَمَّا رُئِي قَوْم مِنْ أَرَاذِلِ النَّاسِ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَأَتَوْا بِهِ الأُمَرَاءَ، اسْتَغْنَتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>