بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا فما كان إيمانهم إلا ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق. فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ نَطْبَعُ مثل ذلك الطبع المحكم نطبع عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.
مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد الرسل بِآياتِنا بالآيات التسع فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ كفاراً ذوى آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهرون قالُوا لحبهم الشهوات إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلا. فإن قلت: هم قطعوا بقولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ على أنه سحر، «١» فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ أتعيبونه وتطعنون فيه. وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلا يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ثم قال أَسِحْرٌ هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ كأنه قيل. أتقولون ما تقولون، يعنى قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ كما قال
(١) . قال محمود: «إن قلت هم قطعوا بقولهم إن هذا لسحر مبين على أنه سحر … الخ» قال أحمد: وفي الفرق بين الوجهين غموض، وإيضاحه أن القول على الوجه الأول وقع كناية عن العيب، فلا يتقاضى مفعولا وفي الثاني على أنه يطلب مفعولا والله أعلم.