للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٦]]

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)

سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله. أو سحر ظاهر افتراؤه. أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله فِي آبائِنَا حال منصوبة عن هذا، أى: كائنا في زمانهم وأيامهم، يريد: ما حدثنا بكونه فيهم، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك، وقد سمعوا وعلموا بنحوه. أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته. أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى ومجيئه بما جاء به. وهذا دليل على أنهم حجوا وبهتوا، وما وجدوا ما يدفعون به ما جاءهم من الآيات إلا قولهم هذا سحر وبدعة لم يسمعوا بمثلها.

[[سورة القصص (٢٨) : آية ٣٧]]

وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)

يقول: رَبِّي أَعْلَمُ منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى: يعنى نفسه، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غنى حكيم لا يرسل الكاذبين، ولا ينئى الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون. وعاقِبَةُ الدَّارِ هي العاقبة المحمودة. والدليل عليه قوله تعالى أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت. فإن قلت: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأنّ الدنيا إمّا أن تكون خاتمتها بخير أو بشر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازا إلى الآخرة، وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها الله فقد حرف، فإذا عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير. وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار «١» . وقرأ ابن كثير: قالَ مُوسى بغير


(١) . قال محمود: «العاقبة هي العاقبة المحمودة، والدليل عليه قوله عز وجل أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ والمراد دار الدنيا وعاقبتها أن يختم للإنسان فيها بالرحمة والرضوان وتتلقاه الملائكة بالبشرى عند الموت. قال: فان قلت العاقبة المحمودة والمذمومة كلاهما يصح أن يسمى عاقبة لأن الدنيا إما أن تكون خاتمتها خيرا أو شرا، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: لأن الله سبحانه وتعالى وضع الدنيا مجازا للآخرة وأراد لعباده فيها أن يعبدوه ولا يعملوا إلا الخير وما خلقهم إلا لأجله، كما قال:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فمن عمل في الدنيا على خلاف ذلك فقد حرف، لأن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من تحريف الفجار» قال أحمد: وقد تقدم من قواعد أهل الحق ما يستضاء به في هذا المقام، والقدر الذي يحتاج إلى تجديده هاهنا: أن استدلاله على أن عاقبة الخير وعبادة الله تعالى هي المرادة له لا سواها بقوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ معارض بأمثاله في أدلة أهل السنة على عقائدهم، مثل قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الآية. والمراد والله أعلم: ولقد جعلنا لعذاب جهنم خلقا كثيرا من الثقلين. ومن ذلك ما يروى عن الفاروق رضى الله عنه أنه قال: وإنكم آل المغبرة ذرء النار، أى: خلقها، فلئن دلت آية الذاريات ظاهرا على أن الله تعالى إنما خلق الثقلين لتكون عاقبتهم الجنة جزاء وثوابا على عبادتهم له، فقد دلت آية الأعراف على أنه خلق كثيرا من الثقلين لتكون عاقبتهم جهنم جزاء على كفرهم.
وحينئذ يتعين الجمع بين الآيتين، وحمل عموم آية الذاريات على خصوص الآية الأخرى، وإن المراد: وما خلقت السعداء من الثقلين إلا لعبادتي، جمعا بين الأدلة، فقد ثبت أن العاقبتين كلتيهما مرادة لله تعالى: هذا بعد تظافر البراهين العقلية على ذلك، فوجه مجيء العاقبة المطلقة كثيرا وإرادة الخير بها: أن الله تعالى هدى الناس إليها ووعدهم ما ورد في سلوك طريقها من النجاة والنعيم المقيم، ونهاهم عن ضدها وتوعدهم على سلوكها بأنواع العذاب الأليم، وركب فيهم عقولا ترشدهم إلى عاقبة الخير، ومكنهم منها، وأزاح عللهم ووفر دواعيهم، فكان من حقهم أن لا يعدلوا عن عاقبة الخير ولا يسلكوا غير طريقها، وأن يتخذوها نصب أعينهم، فأطلقت العاقبة والمراد بها الخير تفريعا على ذلك، والله أعلم. والحاصل: أنها لما كانت هي المأمور بها والمحضوض عليها، عوملت معاملة ما هو مراد وإن لم تكن مرادة من كثير من الخلق، وقال لي بعضهم: ما يمنعك أن تقول لم يفهم كون العاقبة المطلقة هي عاقبة الخير من إطلاقها، ولكن من إضافتها إلى ذويها باللام في الآي المذكورة، كقوله مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فأفهمت اللام أنها عاقبة الخير، إذ هي لهم وعاقبة السوء عليهم لا لهم، كما يقولون: الدائرة لفلان، يعنون: دائرة الظفر والنصر. والدائرة على فلان، يعنون:
دائرة الخذلان والسوء، فقلت: لقد كان لي في ذلك مقال لولا ورود أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ولم يقل عليهم، فاستعمال اللام مكان «على» دليل على إيفاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير، والله أعلم.