للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن ترتدوا عن دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم، لا من قبل التدين والميل مع الحق، لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق؟

وإما أن يتعلق بحسدا، أى حسدا متبالغا منبعثا من أصل أنفسهم فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الذي هو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم مِنْ خَيْرٍ من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ تجدوا ثوابه عند اللَّه إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يضيع عنده عمل عامل.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٢]

وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)

الضمير في وَقالُوا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. والمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلف بين القولين ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كل فريق قوله، وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه. ونحوه (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ، والهود: جمع هائد، كعائذ وعُوذ، وبازل وبُزل. فإن قلت: كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت: حمل الاسم على لفظ «من» والخبر على معناه، كقراءة الحسن إلا من هو صالوا الجحيم. وقوله: (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) . وقرأ أبىّ بن كعب: إلا من كان يهوديا أو نصرانيا. فإن قلت: لم قيل تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ وقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أمنية واحدة «١» ؟ قلت:


(١) . قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: لم قيل تلك أمانيهم وقولهم لن يدخل الجنة أمنية واحدة … الخ» ؟
قال أحمد رحمه اللَّه: يبعد هذا الجواب قوله تعالى عقيب ذلك: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فان البرهان المطلوب منهم هاهنا إنما هو على صحة دعواهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم. ويحقق هذا قوله: (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فإنما يعنى الجنة ونعيمها، رداً عليهم في نفى غيرهم عن دخولها ففي هذا دليل بين على أن الأمانى المشار إليها ليس إلا ما طولبوا بإقامة البرهان على صحته وهو أمنية واحدة واللَّه أعلم. والجواب القريب: أنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم جمعت، ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم، بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك وإن كان مؤداه واحداً. ونظيره قولهم: معاً جياع، فجمعوا الصفة ومؤداها واحد، لأن موصوفها واحد تأكيداً لثبوتها وتمكنها. وهذا المعنى أحد ما روى في قوله تعالى: (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فانه جمع قليلا وقد كان الأصل إفراده، فيقال لشرذمة قليلة كقوله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها. ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد، فنقل إلى تأكيد الواحد، وإبائه زيادته على نظرائه نقلا مجازيا بديعاً، فتدبر هذا الفصل فانه من نفائس صناعة البيان واللَّه الموفق.