والأكنة: جمع كنان، وهو الغطاء. والوقر- بالفتح- الثقل. وقرئ بالكسر. وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله تعالى وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ومج أسماعهم له كأن بها صمما عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه: حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل أو نحوه، فلا تلاقى ولا ترائى فَاعْمَلْ على دينك إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا. أو فاعمل في إبطال أمرنا، إننا عاملون في إبطال أمرك. وقرئ إنا عاملون. فإن قلت:
هل لزيادة مِنْ في قوله وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فائدة؟ قلت: نعم، لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجابا حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة مِنْ فالمعنى: أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ «١»
(١) . قال محمود: «فان قلت: ما فائدة مِنْ في قوله وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ وأجاب بأن فائدتها الدلالة على أن من جهتهم ابتدأ الحجاب، ومن جهته أيضا ابتدأ حجاب، فيلزم أن المسافة المتوسطة بينهما مملوءة بالحجاب لا فراغ فيها، ولولا ذكر من فيها لكان المعنى: على أن في المسافة بينهما حجابا فقط» قال أحمد: ولا ينفك المعنى بدخول مِنْ عما كان عليه قبل، ولو كان لأمر كما ذكر لكانت من مقدرة مع بين الثانية، لأنه جعلها مفيدة للابتداء في الثانية كما هي مفيدة للابتداء في الأولى، فيكون التقدير إذا: ومن بيننا وبينك حجاب، وهذا يخل بمعنى «بين» إخلالا بينا، فإنها تأبى تكرار العامل معها، حتى لو قال القائل: جلست بين زيد، وجلست بين عمرو: لم يكن مستقيما، لأن تكرار العامل يصيرها داخلة على مفرد فقط، ويقطعه عن قرينه المتقدم. ومن شأنها الدخول على متعدد، لأن في ضمن معناها التوسط، وزاد الزمخشري على هذا فجعل «بين» الثانية غير الأولى لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته، وليس الأمر كما ظنه، بل «بين» الأولى هي الثانية بعينها، وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين، وتكرارها إنما كان لأن المعطوف مضمر محفوظ، فوجب تكرار حافظه وهو بين، والدليل على هذا: أنه لا تفاوت باتفاق بين أن تقول: جلست بين زيد وعمرو، وبين أن تقول: جلست بين زيد وبين عمرو. وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازا ومع المضمر وجوبا لما بيناه فإذا وضح ذلك فالظاهر- والله أعلم- أن موقع من هاهنا كموقعها في قوله تعالى وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا وذلك للاشعار بأن الجهة المتوسطة مثلا بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام مبدأ الحجاب لا غير، ووجود من قريب من عدمها، ألا ترى إلى آخر هذه الآية كيف لم يستعمل فيها من، وهي قوله تعالى وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وكلام الزمخشري هذا إذا امتحنته بالتحقيق الذي ذكرناه: تبين ضعفه، والله الموفق. وفي هذه الآية وأختها من المبالغة والبلاغة ما لا يليق أن ينتظم إلا في درر الكتاب العزيز، فإنها اشتملت على ذكر حجب ثلاثة متوالية: كل واحد منها كاف في فنه، فأولها الحجاب الحائل الخارج، ويليه حجاب الصمم. وأقصاها الحجاب الذي أكن القلب والعياذ بالله، فلم تدع هذه الآية حجابا مرتخيا إلا أسبلته ولم تبق لهؤلاء الأشقياء مطمعا ولا صريخا الا استلبته، فنسأل الله كفايته. [.....]