أرادوا بقولهم نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم «١» . فقال الله عزّ وجلّ: قالوا ذلك وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن الأمر كما يدل عليه قولهم: إنك لرسول الله، والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم: نشهد، وادعائهم فيه المواطأة. أو إنهم لكاذبون فيه، لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة، فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو أراد: والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم: لأنهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. فإن قلت: أى فائدة في قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ؟
قلت: لو قال: قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إنهم الكاذبون، لكان يوهم أنّ قولهم هذا كذب، فوسط بينهما قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ليميط هذا الإيهام اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً يجوز أن يراد أنّ قولهم نشهد إنك لرسول الله يمين من أيمانهم الكاذبة، لأنّ الشهادة تجرى مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد، يقول الرجل: أشهد وأشهد بالله، وأعزم وأعزم
(١) . قال محمود: «إنما كذبهم لأنهم ادعوا أن شهادتهم بألسنتهم تواطئ لقلوبهم … الخ» قال أحمد: ومثل هذا من نمطه المليح قوله قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وقد كان المطابق لقوله وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أن يقال لهم: لا تقولوا آمنا، ولكنه لما كان موهما للنهى عن قول الايمان عدل عنه على ما فيه من الطباق إلى ما سلم الكلام فيه من الوهم، وذلك أجل وأعظم من فائدة المطابقة، لا سيما في مخاطبة هؤلاء الذين كانوا يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة. ألا تراهم كيف غالطوا أنفسهم متغابين، ولبسوا على ضعفهم متجاهلين عند ما أنزل قوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.