للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جعل العذاب ماسا، كأنه حىّ يفعل بهم ما يريد من الآلام. ومنه قولهم: لقيت منه الأمرّين والأقورين»

حيث جمعوا جمع العقلاء: وقوله إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٠]]

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)

أى لا أدعى ما يستبعد في العقول «٢» أن يكون لبشر من ملك خزائن الله- وهي قسمه بين الخلق وإرزاقه، وعلم الغيب، وأنى من الملائكة الذين هم أشرف جنس «٣» خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه. أى لم أدّع إلهية ولا ملكية، لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها. وإنما أدّعى ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوّة هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للضالّ والمهتدى «٤» ويجوز أن يكون


(١) . قوله «الأمرين والأقورين» الأمرين- بنون الجمع-: الدواهي. والأقورين- بكسر الراء-: الدواهي العظام، كذا في الصحاح. (ع)
(٢) . قال محمود: «أى لا أدعى ما يستبعد في العقول … الخ» قال أحمد رحمه الله: هو ينبنى على القاعدة المتقدمة له في تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها ولمخالفة أن يقول: إنما وردت الآية رداً على الكفار في قولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ … الآية فرد قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، بأنه بشر وذلك شأن البشر، ولم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء لأنه لا خلاف أن الأنبياء يأكلون الطعام وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء. وكذلك رد قولهم. أو يلقى إليه كنز، بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به. وهذه الآية جاء الترتيب فيها مخالفاً لترتيب قوله نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
قال الزمخشري: لأنهم أعلى من الأنبياء، وقد أخر هاهنا دعوى الملكية عن دعوى الالهية، إذ الالهية أجل وأعلى، والملكية أدنى، ولا محل لذلك إلا التمهيد الذي أسلفته وقد جعلت الأمر في التقديم والتأخير تبعا للسياق، فقد تقضى البلاغة في بعضه عكس ما تقتضيه في الآخر. ولم يحسن الزمخشري في قوله: ليس يعد الالهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، فانه جعل الالهية من جملة المنازل كالملكية. ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ. والمنزلة عبارة عن المحل الذي ينزل الله فيه العبد من علو وغيره، فاطلاقها على الالهية تحريف، والله الموفق للصواب.
(٣) . قوله «من الملائكة الذين هم أشرف جنس» أى عند المعتزلة، أما عند أهل السنة، فالبشر أشرف، على ما تقرر في التوحيد. (ع)
(٤) . عاد كلامه. قال: والأعمى والبصير مثل للضال والمهتدى … الخ» قال أحمد: قوله أو ادعى المحال يعنى المستحيل، ولذلك قابله بالمستقيم يريد الممكن، وذلك مسبب عن دعوى الالهية، إذ ادعاؤها لا يجوز عقلا. وأما مدعى الملكية فلا يقاس بمدعي الالهية في الاستحالة العقلية. ويجوز في القدرة أن يجعل البشر ملكا والملك بشراً، كما يجوز أن يجعل البشر أنبياء. ويدل على هذا الجواز قوله وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا هذا مع أن العقل يجيزه في قدرة الله تعالى، لأن الجواهر متماثلة، والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها فالمعاني التي بها كان الملك ملكا يجوز أن يخلقها الله تعالى للبشر وبالعكس. وعدم وقوعه لا يأبى استقامته وإمكانه، والله الموفق.