للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد الله وحفصة: في ذكر الله. وما في ما فرّطت مصدرية مثلها في بِما رَحُبَتْ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل وَإِنْ كُنْتُ النصب على الحال، كأنه قال: فرّطت وأنا ساخر، أى:

فرّطت في حال سخريتي. وروى أنه كان في بنى إسرائيل عالم ترك علمه وفسق. وأتاه إبليس وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمرى في طاعة الشيطان، وأسخطت ربى فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لا يخلو: إما أن يريد الهداية «١» بالإلجاء أو بالألطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الألطاف فيلطف به. وأما الوحى فقد كان، ولكنه عرض ولم يتبعه حتى يهتدى، وإنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدى عليه، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ وقوله بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ردّ من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى.

وقرئ بكسر التاء «٢» على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن. وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأوّل لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، تم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع بلى جوابا لغير منفي؟ قلت: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي فيه معنى: ما هديت.

[[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٠]]

وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)

كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى، وهو متعال «٣» عنه، فأضافوا إليه


(١) . قوله «لا يخلو إما أن يريد به الهداية» تمحل لتطبيق الآية على مذهب المعتزلة، ولكن خلق الهداية لا يصل إلى حد الإلجاء، لأنه لا يسلب الاختيار عند أهل السنة، كخلق التقوى والطاعة وغيرها من الأفعال الاختيارية، لما أثبتوه للعبد من الكسب فيها وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله تعالى، كما تقرر في علم التوحيد. (ع) [.....]
(٢) . قوله «وقرئ بكسر التاء» لعل من كسرها كسر الكاف أيضا. (ع)
(٣) . قال محمود: «يعنى الذين وصفوه تعالى بما لا يجوز عليه وهو متعال عنه … الخ» قال أحمد: قد عدا طور التفسير لمرض في قلبه لا دواء له إلا التوفيق الذي حرمه، ولا يعافيه منه إلا الذي قدر عليه هذا الضلال وحتمه، وسنقيم عليه حد الرد، لأنه قد أبدى صفحته، ولولا شرط الكتاب لأضربنا عنه صفحا ولوينا عن الالتفات إليه كشحا، وبالله التوفيق فنقول: أما تعريضه بأن أهل السنة يعتقدون أن القبائح من فعل الله تعالى، فيرجمه باعتقادهم المشار إليه قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أما الزمخشري وإخوانه القدرية، فيغيرون وجه هذه الآية ويقولون: ليس خالق كل شيء، لأن القبائح أشياء وليست مخلوقة له.
فاعتقدوا أنهم نزهوا، وإنما أشركوا. وأما تعريضه لهم في أنهم يجوزون أن يخلق خلقا لا لغرض، فذلك لأن أفعاله تعالى لا تعلل، لأنه الفعال لما يشاء. وعند القدرية ليس فعالا لما يشاء لأن الفعل إما منطو على حكمة ومصلحة، فيجب عليه أن يفعله عندهم، وإما عار عنها فيجب عليه أن لا يفعله فأين أثر المشيئة إذا. وأما اعتقاده أن في تكليف مالا يطاق تظليما لله تعالى، فاعتقاد باطل، لأن ذلك إنما ثبت لازما لاعتقادهم أن الله تعالى خالق أفعال عبيده، فالتكليف بها تكليف بما ليس مخلوقا لهم، والقاعدة الأولى حق، ولازم الحق حق، ولا معنى للظلم إلا التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والعباد ملك الله تعالى، فكيف يتصور حقيقة الظلم منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وأما تعريضه بأنهم يجوزون أن يؤلم لا لعوض، فيقال له: ما قولك أيها الظنين في إيلام البهائم والأطفال، ولا أعواض لها، وليس مرتبا على استحقاق سابق خلافا للقدرية إذ يقولون: لا بد في الألم من استحقاق سابق أو عوض. وأما اعتقاده أن تجويز رؤية الله تعالى يستلزم اعتقاد الجسمية، فانه اغترار في اعتقاده بأدلة العقل المجوزة لذلك، مع البراءة من اعتقاد الجسمية، ولم يشعر أنه يقابل بهداية قول نبى الهدى عليه الصلاة والسلام: «إنكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» فهذا النص الذي ينبو عن التأويل ولا يردع المتمسك به شيء من التهويل. وأما قوله إنهم يتسترون بالبلكفة، فيعنى به قولهم «بلا كيف» أجل إنها لستر لا تهتكه يد الباطل البتراء، ولا تبعد عن الهدى عين الضلال العوراء. وأما تعريضه بأنهم يجعلون لله أندادا باثباتهم معه قدماء، فنفى لاثباتهم صفات الكمال، كلا والله، إنما جعل لله أندادا القدرية إذ جعلوا أنفسهم يخلقون ما يريدون ويشتهون على خلاف مراد ربهم. حتى قالوا: إن ما شاءوه كان وما شاء الله لا يكون. وأما أهل السنة فلم يزيدوا على أن اعتقدوا أن لله تعالى علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وحياة، حسبما دل عليه العقل وورد به الشرع وأى مخلص للقدرى إذا سمع قوله تعالى وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً إلا اعتقاد أن لله تعالى علما أو جحد آيات الله وإطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وأما قوله: إنهم يثبتون لله تعالى يدا وقدما ووجها، فذلك فرية ما فيها مرية، ولم يقل بذلك أحد من أهل السنة. وإنما أثبت القاضي أبو بكر صفات سمعية وردت في القرآن: اليدان والعينان والوجه، ولم يتجاوز في إثباتها ما وردت عليه في كتاب الله العزيز، على أن غيره من أهل السنة حمل اليدين على القدرة والنعمة، والوجه على الذات، وقد مر ذلك في مواضع من الكتاب، فقد اتصف في هذه المباحثة بحال من بحث بظلفه على حتفه، وتعريضه معتقده الفاسد لهتك ستره وكشفه، وإنما حملني على إغلاظ مخاطبته الغضب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأهل سنته، فانه قد أسناء عليهم الأدب، ونسيهم بكذبه إلى الكذب، والله الموفق.