أليس أن إبليس رأس الكفر ومعدنه ومع هذا قال اللَّه تعالى: (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ … ) إلى آخر الآية ويقول تعالى للكفار وهم بين أطباقها يعذبون (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ولأن هذا الأمر متيقن وقوعه فضلا عن جوازه أول العلماء قوله تعالى: (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) بمعنى ولا يكلمهم بما يسرهم وينفعهم. هذا وجه تعجبي من السؤال. وأما الجواب فقد أسلفت آنفا رده بأن إيمان هذا المار على القول بأنه كان كافراً إنما حصل في آخر القصة بعد أن تبينت له الآيات. وأما كلام اللَّه تعالى فمن أول القصة. قلت: الزمخشري كفانا مؤنة هذا الفضل سؤالا وجواباً واللَّه المستعان. (٢) . قال محمود: «إن قلت كيف قال له (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) وقد علم … الخ» ؟ قال أحمد: الأولى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها من الممتحنة بالفكر المحرر، والنكت المفصحة بالرأى المخمر فما وافق من كلام المصنف ما يذكره فالحمد للَّه، وما خالفه فالحق فيما ذكرناه واللَّه الموفق. فنقول: أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فليس عن شك والعياذ باللَّه في قدرة اللَّه عن الأحياء، ولكنه سؤال عن كيفية الأحياء، ولا يشترط في الايمان الاحاطة بصورتها، فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الايمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا السؤال أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس؟ فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه لا ثبوته، ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فيطرق إلى إبراهيم شكا من هذه الآية. وقد قطع النبي عليه الصلاة والسلام دابر هذا الوهم بقوله «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أى ونحن لم نشك، فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى. فان قلت: إذا كان السؤال مصروفا إلى الكيفية التي لا يضر عدم تصورها ومشاهدتها بالايمان ولا تخل به، فما موقع قوله تعالى: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ؟ قلت: قد وقعت لبعض الحذاق فيه على لطيفة وهي أن هذه الصيغة تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية كما مر، وقد تستعمل في الاستعجاز. مثاله: أن يدعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله، فتقول له: أرنى كيف محمل هذا، فلما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال الذي أحاط علم اللَّه تعالى بأن ابراهيم مبرأ منه، أراد بقوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أن ينطق إبراهيم بقوله: بلى آمنت، ليدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى: ليكون إيمانه مخلصاً نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهما لا يلحقه فيه شك. فان قلت: قد تبين لي وجه الربط بين الكلام على التقدير المبين، فما موقع قول إبراهيم (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وذلك يشعر ظاهراً بأنه كان عند السؤال فاقداً للطمأنينة؟ قلت: معناه ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة، لأنى إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد وجاءت الآية مطابقة لسؤاله، لأنه شاهد صورة حياة الموتى، تقديره: الذي يحيى ويميت، فهذا أحسن ما يجرى لي في تفسير هذه الآية وربك الفتاح العليم. وأما قول الزمخشري: «إن علم الاستدلال يتطرق إليه التشكيك بخلاف العلم الضروري» فكلام لم يصدر عن رأى منور ولا فكر محرر، وذلك أن العلم الموقوف عن سبب لا يتصور فيه تشكيك، ما دام سببه مذكوراً في نفس العالم، وإنما الذي يقبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحاً وسببه باق في الذكر، وبهذا ينحط الاعتقاد الصحيح عن ذروة العلم، ولكن للقدماء من القدرية خبط طويل في تميز العلم عن الاعتقاد، حتى غالى أبو هاشم فقال العلم بالشيء والجهل به مثلان. وهذا على الحقيقة جهل حتى لحقيقة الجهل، والزمخشري في قواعد العقائد يقفو آثار هذا القائل أية سلك فلعله من ثم طرق إلى العلم النظري الشك حسب تطرقه إلى الاعتقاد الذي يكون مرة جهلا ومرة مطابقا، واللَّه الموفق.