إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر، أدركته الحسرة على ما فرّط فيه من الإيمان والعمل الصالح فيه، فسأل ربه الرجعة وقال لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً في الإيمان الذي تركته، والمعنى:
لعلى آتى بما تركته من الإيمان، وأعمل فيه صالحا، كما تقول: لعلى أبنى على أس، تريد:
أسس أسا وأبنى عليه. وقيل: فيما تركت من المال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان! بل قدوما إلى الله. وأمّا الكافر فيقول: رب ارجعون» كَلَّا ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد. والمراد بالكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض، وهي قوله: لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ. هُوَ قائِلُها لا محالة، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم. أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ والضمير للجماعة، أى: أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، وليس المعنى: أنهم يرجعون يوم البعث، وإنما هو إقناط كلى لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
الصور- بفتح الواو- عن الحسن. والصور- بالكسر والفتح- عن أبى رزين. وهذا دليل لمن فسر الصور بجمع الصورة، ونفى الأنساب: يحتمل أنّ التقاطع يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين ومثابين، ولا يكون التواصل بينهم والتألف إلا بالأعمال، فتلغوا الأنساب وتبطل، وأنه لا يعتدّ بالأنساب لزوال التعاطف والتراحم بين الأقارب، إذ يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. وعن ابن مسعود: ولا يساءلون، بإدغام التاء في السين. فإن قلت:
قد ناقض هذا ونحو قوله وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «١» وقوله يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ فكيف التوفيق بينهما؟ قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها، وفي
(١) . قال محمود: «إن قلت قد ناقض هذا قوله: فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» قال أحمد: يجب أن لا يسلك هذا المسلك في إيراد الأسئلة عن فوائد الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وسؤال الأدب أن يقال: قصر فهمي عن الجمع بين هاتين الآيتين، فما وجهه؟ ولو سأل سائل عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن شيء من كتاب الله تعالى بهذه الصيغة لأوجع ظهره بالدرة.