للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ، لم يضر مثله مثلكم.

[[سورة هود (١١) : آية ٥٨]]

وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل: كانوا أربعة آلاف. فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟

قلت: ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ على معنى:

وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وذلك أنّ الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً. وقيل: أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ. وقوله: برحمة منا، يريد: بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له.

[سورة هود (١١) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]

وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)

وَتِلْكَ عادٌ إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأنه قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.

ومعنى اتباع أمرهم: طاعتهم. ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله. وأَلا وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم، تهويل لأمرهم وتفظيع له، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم.

فإن قلت: بُعْداً دعاء بالهلاك، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم؟ قلت: معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له: ألا ترى إلى قوله:

إخْوَتِى لَا تَبْعَدُوا أبَداً … وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا «١»


(١) .
إخوتى لا تبعدوا أبدا … وبلى والله قد يعدوا
ما أمرّ العيش بعدكم … كل عيش بعدكم نكد
ليت شعري كيف شربكم … إن شربى بعدكم ثمد
لفاطمة بنت الأحجم الخزاعية. وتقول العرب: بعد بالضم في ضد القرب، وبالكسر في الهلاك، ومضارع الأول مضموم، ومضارع الثاني مفتوح. وما في البيت منه. وما أمر: تعجب، وشبهت العيش وهو الحياة أو ما يعاش به بشيء مر على طريق المكنية، وإثبات المرارة تخييل، أو استعارتها للنقص على طريق التصريحية. والنكد:
العسر الضيق المنغص. والثمد: الماء القليل الذي لا مادة له فينقطع سريعاً. ورجل مثمود، إذا كثر عليه السؤال من العلم أو المال حتى نفد ما عنده. والمعنى: أن سروري بعدكم منقطع كالماء القليل، وعبرت بذلك لمشاكلة ما قبله.
ويروى لها بعد البيت الأول:
لو تملتهم عشيرتهم … لاقتناء العز أو ولدوا
هان من بعض الرزية أو … هان من بعض الذي أجد
كل ما حى وإن أمروا … وارد والحوض الذي وردوا
ومعنى تملتهم: عاشوا معهم مليا من الزمان، وأقحمت «من» مع إغباء «بعض» عنها، للدلالة على تبغيض البغض.
و «ما» مقحمة، بنى كل حى مبالغة في العموم. وأمروا بالكسر: كثروا. والحوض: تمثيل للموت.