والمعنى: لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا: لولا أرسلت إلينا رسولا، محتجين بذلك لما أرسلت إليهم أحدا. فان قلت: كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة سببا في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: العقوبة سبب القول، وهي سبب السبب، فجعلت سببا وعطف السبب الأصلى عليها بالفاء السببية» قال أحمد: وذلك مثل قوله تعالى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى والسر في جعل سبب السبب سببا، وعطف السبب الأصلى عليه أمران، أحدهما: أن مزيد العناية يوجب التقديم، وهذا هو السر الذي أبداه سيبويه. الثاني أن في هذا النظم تنبيها على سببية كل واحد منهما: أما الأول فلاقترانه بحرف التعليل، وهو «أن» وأما الثاني، فلاقترانه بفاء السبب، ولا يتعاطى هذا المعنى إلا من قولك أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ لا من قول القائل: أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت، وكان بعض النحاة يورد هذه الآية إشكالا على النحاة وعلى أهل السنة من المتكلمين، فيقول: «لولا» عند أهل الفن تدل على امتناع جوابها لوجود ما بعدها، وحينئذ يكون الواقع بعدها في الآية موجودا وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل، وجوابها المحذوف غير واقع وهو عدم الإرسال، لأنه ممتنع بالأولى. ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة، فيشكل الواقع بعدها على أهل السنة، لأنهم يقولون: لا ظلم قبل بعثه الرسل، فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة، وذلك لأنها واقعة جزاء على مخالفة أحكام الشرع، فان لم يكن شرع فلا مخالفة ولا عقوبة. ويشكل الجواب على النحاة، لأنه يلزم أن لا يكون واقعا وهو عدم بعثة الرسل، لكن الواقع بعدها يقتضى وقوعه، ثم كان مورد هذا الاشكال يجيب عنه بتقدير محذوف. والأصل: ولولا كراهة أن تصيبهم مصيبة وحينئذ يزول الاشكال عن الطائفتين. والتحقيق عندي في الجواب خلاف ذلك، وإنما جاء الاشكال من حيث عدم تجويز النحاة لمعنى لولا أن يقولون: أنها تدل على أن ما بعدها موجود وأن جوابها ممتنع به، والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها، عكس «لو» فان معناها لزوم جوابها لما بعدها، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا، والآية من قبيل فرض وجود المانع، وكذلك اللزوم في «لو» قد يكون الشيء الواحد لازما لشيئين، فلا يلزم نفيه من نفى أحد ملزوميه. وعلى هذا التحرير يزول الاشكال الوارد على «لو» في قوله: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فتأمل هذا الفصل فتحته فوائد للمتأمل، والله الموفق.