(٢) . قال محمود: «معناه اختبروا أحوالهم … الخ» قال أحمد: الابتلاء على هذا الوجه مذهب مالك رضى اللَّه عنه، غير أنه لا يكون عنده إلا بعد البلوغ ولا يدفع إليه من ماله شيء قبله، وكذلك أحد قولي الشافعي رضى اللَّه عنه، وقوله الآخر كمذهب أبى حنيفة، غير أن عنه خلافا في صورته قبل البلوغ على وجهين: أحدهما أن يسلم إليه المال ويباشر العقود بنفسه كالبالغ، والآخر أن يكون وظيفته أن يساوم، وتقرير الثمن إذا بلغ الأمر إلى العقد باشره الولي دونه وسلم الصبى الثمن، فأما الرشد فالمعتبر عند مالك رضى اللَّه عنه فيه: هو أن يحرز ماله وينميه، وإن كان فاسقاً في حاله. وعند الشافعي: المعتبر صلاح الدين والمال جميعاً، وغرضنا الآن أن نبين وجه تنزيل مذهب مالك في هذه الآية واللَّه المستعان. فأما منعه من الإيتاء قبل البلوغ- وإن كان ظاهر الآية أن الإيتاء قبله- من حيث جعل البلوغ وإيناس الرشد غاية للايتاء، والغاية متأخرة عن المغيا ضرورة، فيتعين وقوع الإيتاء قبل. ولهذه النكتة أثبته أبو حنيفة قبل البلوغ واللَّه أعلم، فعلى جعل المجموع من البلوغ وإيناس الرشد هو الغاية حينئذ يلزم وقوع الابتلاء قبلهما، أعنى المجموع وإن وقع بعد أحدهما وهو البلوغ، لأن المجموع من اثنين فصاعدا لا يتحقق إلا بوجود كل واحد من مفرديه. ويحقق هذا التنزيل أنك لو قلت: وابتلوا اليتامى بعد البلوغ، حتى إذا اجتمع الأمران وتضاما البلوغ والرشد فادفعوا إليهم أموالهم، لاستقام الكلام، ولكان البلوغ قبل الابتلاء وإن كان الابتلاء مغيا بالأمرين واقعاً قبل مجموعهما، ونظير هذا النظر توجيه مذهب أبى حنيفة في قوله: إن فيئة المولى إنما تعتبر في أجل الإيلاء لا بعده، وتنزيله على قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فجدد به عهداً يتضح لك تناسب النظرين، واللَّه أعلم. وأما اقتصاره رضى اللَّه عنه بالرشد على المال، فان كان المولى عليه فاسق الحال فوجه استخراجه من الآية أنه علق إيناس الرشد فيها بالابتلاء بدفع مال إليهم ينظر تصرفهم فيه، فلو كان المراد إصلاح الدين فقط لم يقف الاختبار في ذلك على دفع المال إليهم، إذ الظاهر من المصلح لدينه أنه لا يتفاوت حاله في حالتي عدمه ويسره. ولو كان المراد إصلاح الدين والمال معا- كما يقوله الشافعي رضى اللَّه عنه- لم يكن إصلاح الدين موقوفا على الاختبار بالمال كما مر آنفا. وأيضا فالرشد في الدين والمال جميعاً هو الغاية في الرشد، وليس الجمع بينهما بقيد، وتنكير الرشد في الآية يأبى ذلك، إذ الظاهر: فان آنستم منهم رشداً ما فبادروا بتسليم المال إليهم غير منتظرين بلوغ الغاية فيه، واللَّه أعلم.