كاذبين، وإنما ضمنوا شيئا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به، لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز، لأنه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ قلت: شبه الله حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه لمخبر، عنه. ويجوز أن يريد أنهم كاذبون، لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أى أثقال أنفسهم وَأَثْقالًا يعنى أثّقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها، وهي أثقال الذين كانوا سببا في ضلالهم وَلَيُسْئَلُنَّ سؤال تقريع عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أى يختلقون من الأكاذيب والأباطيل. وقرئ: من خطيآتهم.
كان عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين سنة، بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب: أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة. فإن قلت: هلا قيل تسعمائة وخمسين سنة؟ قلت: ما أورده الله أحكم. لأنه لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة «١» ، وفيه نكتة أخرى: وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره. فإن قلت: فلم جاء المميز أوّلا بالسنة وثانيا بالعام؟ قلت: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد
(١) . قال محمود: «عدل عن تسعمائة وخمسين لأنه يحتمل فيه إطلاق العدد على أكثره بخلاف مجيئه مع الاستثناء» قال أحمد: لأن الاستثناء استدراك ورجوع على الجملة بالتنقيص، تحريرا للعدد، فلا يحتمل المبالغة لأنها لا يجوز معها العدد.