أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلا أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله مِنْ فَضْلٍ من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فيما تدّعونه.
أَرَأَيْتُمْ أخبرونى إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ على برهان مِنْ رَبِّي وشاهد منه يشهد بصحة دعواي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة. فإن قلت: فقوله فَعُمِّيَتْ ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرئ:
فعميت بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبى: فعماها عليكم. فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدى ولا يهدى غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمى على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. فإن قلت:
فما معنى قراءة أبىّ؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله «١» وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ يعنى
(١) . قوله «فخلاهم الله» لم يفسره بمعنى أخفاها، لأن الله لا يفعل الشر عند المعتزلة، وعند أهل السنة يفعل كل ممكن. (ع)