فِتْنَةً أى محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل، يقول: وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل، ونحوه وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وموقع أَتَصْبِرُونَ بعد ذكر الفتنة موقع أَيُّكُمْ بعد الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. بَصِيراً عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقنّ صدرك، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية له عما عيروه به من الفقر، حين قالوا:
أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة. وأنه جعل الأغنياء فتنه للفقراء لينظر: هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته: يغنى من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلناك فتنة لهم، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيرا ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوى. وقيل: كان أبو جهل والوليدين المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض.
أى لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة. أو لا يخافون لقاءنا بالشر. والرجاء في لغة تهامة:
الخوف، وبه فسر قوله تعالى لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا. اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمدا صادق حتى يصدقوه. أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. ولا يخلو: إما أن يكونوا عالمين بأن الله لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء، وأن الله لا يصح أن يرى «١» . وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون. وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم، كما فعل قوم موسى حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فإن قلت: ما معنى فِي أَنْفُسِهِمْ؟ قلت: معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد
(١) . قوله «لا يصح أن يرى، هذا مذهب المعتزلة، وعند أهل السنة: يصح أن يرى. (ع)