للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإصرار وحرف النفي منصب عليهما معاً. والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهى عنها وبالوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وفي هذه الآيات بيان قاطع أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات متقون وتائبون ومصرّون، وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم، دون المصرّين «١» . ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه. قال أَجْرُ الْعامِلِينَ بعد قوله: (جَزاؤُهُمْ) لأنهما في معنى واحد. وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أنّ ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون «٢» . وروى أنّ اللَّه عزّ وجلّ أوحى إلى موسى: «ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي» وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة. وعن الحسن رضى اللَّه عنه:

يقول اللَّه تعالى يوم القيامة «جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم» وعن رابعة البصرية رضى اللَّه عنها أنها كانت تنشد:

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا … إنّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِى عَلَى اليَبَسِ «٣»

والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك. يعنى المغفرة والجنات قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يريد ما سنه اللَّه في الأمم المكذبين من وقائعه، كقوله: (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) .

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٨ الى ١٣٩]

هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)


(١) . قوله والتائبين منهم دون المصرين يعنى أن الإصرار كبيرة وفاعل الكبيرة يخلد في النار لكن هذا عند المعتزلة، وخالف أهل السنة لأنه مؤمن عندهم والمؤمن لا يخلد فيها وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)
(٢) . (قوله وأجر مستحق عليه لا كما يقول المبطلون) يريد بهم أهل السنة حيث قالوا لا يجب على اللَّه شيء. (ع)
(٣) .
ما بال نفسك ترضى أن تدنسها … وثوب نفسك مغسول من الدنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها … إن السفينة لا تجرى على اليبس
للإمام على كرم اللَّه وجهه وقيل: لأبى العتاهية. والبال الشأن والنفس. ويجوز أنها الذات والثوب على ظاهره.
ويجوز أنها الروح والثوب مستعار للجسم، لأنه للروح كالثوب للبدن، أى لا ينبغي تدنيس المظروف مع تنظيف ظرفه. ويجوز أن الأولى الروح والثانية الذات. ويروى ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوب نفسك:
جملة حالية. ويروى: «وثوبك الدهر مغسول» . وترجو النجاة على حذف أداة الاستفهام التوبيخي، أبرزه في صورة الخبر ليصور قبحه، وشبه الأسباب الموصلة للنجاة بالطرق المسلوكة على سبيل التصريحية «ولم تسلك» ترشيح.
وقوله «إن السفينة» تمثيل لحال من يرجو أمراً ولم يأخذ في أسبابه بحال ملاح يريد تسيير السفينة على أرض صلبة لا ماء بها، وفيه تقرير التوبيخ الذي أفاده الاستفهام.