وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه «١» على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة. وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة: ولما سكن عن موسى الغضب، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهمزة، وطرفا من تلك الروعة. وقرئ: ولما سكت. وأسكت:
أى أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى: ولما طفئ غضبه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها وفيما نسخ منها، أى كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً. ونحوه لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ وتقول: لك ضربت.
(١) . قال محمود: «هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك … الخ» قال أحمد: وهو من النمط الذي قدمته من قلب الحقيقة إلى المجاز، وكان الأصل: ولما سكت موسى عن الغضب، ولذلك عده بعض أهل العربية من المقلوب، وسلكه في نمط خرق الثوب المسمار. والتحقيق أنه ليس منه وأن هذا القلب أشرف وأفصح، لأنه بماله على معنى بليغ وهو أن الغضب كان متمكنا من موسى حتى كان كأنه يصرفه في أوامره، وكل ما وقع منه حينئذ فعن الغضب صادر، حتى كأنه هو الذي أمره به. ومثل هذه النكتة الحسناء لا تلفى في خرق الثوب المسمار، بل هي موجودة في قوله تعالى حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ على خلاف قراءة نافع. وقد تقدم ذلك آنفا، والله الموفق.