أوّلا حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية وَطَهَّرَكِ مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود وَاصْطَفاكِ آخرا عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء. أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيآت الصلاة وأركانها ثم قيل لها وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم. ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع.
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبإ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام، يعنى أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي. فإن قلت: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة؟
وترك نفى استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت: كان معلوما عندهم علما يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحى، فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحى مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ) ، (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أَقْلامَهُمْ أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين. وقيل: هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، اختاروها للقرعة تبركا بها إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأنها تنافسا في التكفل بها.
فإن قلت:(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) بم يتعلق؟ قلت: بمحذوف دلّ عليه يلقون أقلامهم، كأنه قيل: يلقونها ينظرون أيهم يكفل، أو ليعلموا، أو يقولون.