أتبع النهى عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أرادك بخير لم يردّ أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها، وهو أبلغ من قوله إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ. فان قلت: لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير، وأنه لا رادّ لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدلّ بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة.
قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلا نفسه، واللام وعلى: دلا على معنى النفع والضر. وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل. وفيه حث على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكول إلىّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير.
وَاصْبِرْ على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لك بالنصرة عليهم والغلبة. وروى أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال «إنكم ستجدون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني «١» » يعنى أنى أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتنى الكفرة فصبرت فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة، قال أنس: فلم نصبر. وروى أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقى معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار، ثم دخل عليه من بعد، فقال له: مالك لم تتلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها
(١) . ذكره الثعلبي عن أنس بغير سند. والقصة المذكورة متفق عليها من حديث عبد الله بن زيد في أثناء حديث، ومن حديث أسيد بن حضير، ليس فيه كون الآية سبب ذلك، بل سببه قسمة غنائم حنين.